الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هيدجر.. مفكر العودة إلى الوراء

هيدغر.. في كوخه
6 أغسطس 2020 01:27

كتابة: جان جاك ميخالف 
ترجمة: د. محمد سبيلا

هيدجر هو المفكر الكبير الذي يعبر عن روح عصره، فمعه نحيا ونخبر كل يوم أيام الضنك والعناء تلك، التي لا تبشر ولا تعد بأي شكل من أشكال الخلاص الفردي أو الجماعي.
فهيدجر هو الذي أغلق إذن، هذه المرحلة من الميتافيزيقا وواصل حمل المشعل الذي حملته الهيجلية التي طالتها تهمة أنها هي التي نظَّرت للمآسي والتراجيديات الشمولية للقرن المنصرم: القرن العشرين. «ففكر الكينونة» هو الذي ألهم معظم المفكرين الفرنسيين المعاصرين الذين يشير إليهم مصطلح «French theotie» ومنهم ديريدا، وليفيناس، وفوكو، ودولوز على وجه التحديد. وسيكتب هانز جورج غادامير عن أن هيدجر قد مارس تأثيراً «خانقاً» تقريباً على الفلسفة الأوربية في الخمسين سنة الأخيرة من القرن العشرين.

يرى هيدجر أن كل الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون قد قامت على أساس نسيان الكينونة، معطية الأولوية والأفضلية للكائن من حيث هو مجال الفعل والهيمنة التقنية. وكل نتاج هيدجر الفلسفي يسائل هذا الفرق بين الكينونة والكائن حيث لا تكف الكينونة عن الاحتجاب والانخباء في الكائن.
في هذا الإطار تطرح عدة تساؤلات:
- هل العقل قادر على إدراك تجليات الكينونة، وعلى القيام بعملية «الكشف»، أم أن الكينونة مرغمة على أن تظل مخفية وغير قابلة للإدراك من طرف تمثلات العقل؟
- هل هناك إمكانية للتقدم في فهم الكينونة؟
- هل فلسفة هيدجر هي إحدى «الطرق التي لا تقود إلى أي مكان» كما يشير إلى ذلك عنوان إحدى مؤلفاته؟
- هل من الصحيح أن كل الميتافيزيقا الغربية تنسى في طرحها فكر الكينونة؟
- هل صحيح أن كل المفكرين، قبل هيدجر قد أخفوا مسألة الكينونة وتستروا عليها، وأنهم ما أن يبدأوا في التطرق إليها حتى يتجهوا إلى التعامل معها على نمط التعامل مع الكائن؟
من المطروح هنا إذن، من زاوية أولى، البحث عما إذا كان من الممكن تقديم تعريف للكينونة، وثانياً محاولة فهم التعريف الذي يقدمه هيدجر نفسه، وأخيراً إبراز حدود وانسدادات فلسفته ذاتها.
أولاً، أن تكون هو أن توجد في الزمن بمعنى أن الكينونة هي الوجود في الزمن. الكينونة لا تتطابق ولا تتماهى مع أي كائن من الكائنات، كما لا تتماهى مع الكائن بصورة عامة. في بعض الحالات لا تكون الكينونة موجودة، إذ لو وجدت الكينونة فستكون هي بدورها كائناً. فالكينونة هي ما يجعل الكائنات كائنه أو موجودة، وهي ما يجعلها تستمر في كونها كائنة.
وقد حدث في تاريخ الفكر الغربي انزلاق من الكينونة إلى الكائن، إذ أصبحت كينونة الكائن مطلقة. وقد تبين أن مساهمة هيدجر هي بالضبط الحفاظ على صلابة التمييز بين الكائن والكينونة.
يمكن أن نعرّف إحدى أساسات الكائن/‏‏الإنسان على أنها البحث عن معنى وجوده، وذلك منذ أن وعى الإنسان بأنه كائن منذور إلى الموت ومتجه نحوه. وهكذا فإن إعطاء معنى للوجود يظل هو الموضوع المركزي لكل الديانات والفلسفات والميتافيزيقات. فكلها أوّلت على طريقتها مسألة الكينونة: لماذا يوجد شيء بدل لاشيء؟، وكلها قدمت جوابا خاصاً.  ثانياً: لكن هل هيدجر يحترم المحرمات التي فرضها على نفسه؟ فماذا عن مقاربته للكينونة؟
يرى هيدجر، حرفياً، أن الكينونة تشتغل كقوة أولية فاعلة vis primitava activa. فكينونة الكائن هي الإرادة، والإرادة هي العناية والمحافظة التي يتماسك بها كل كائن، ويتجمع بوساطة التمركز حول ذاته. وهكذا فإن كل كائن هو (...) قائم في الإرادة. إنه يكسب ذاته وهويته من خلال الإرادة التي هي شغّالة فيه، وهو ما يجعله، في كل مرة وعلى كيفه، ذلك المريد الذي يريد ضمن وداخل الإرادة. فالحياة والطبيعة تعنيان هنا الكينونة بمعنى الكائن في مجمله.
هكذا فالكائن يتجلى كقوة أولية فاعلة، فعل إرادة، إرادة، طبيعة، حياة... وهنا نعثر على التعريفات «الميتافيزيقية» للكينونة إما كطاقة Energia كما لدى نيتشه، أو كدينامية حيوية لدى بيرغسون، أو كجهد خلاّق Canatus لدى سبينوزا.
ثالثاً، يبدو لنا أن التعليق الذي كتبه هيدجر حول الشاعر ريلكه RILKE يمكن أن ينيرنا حول أعماله هو نفسه وحول علاقته بالميتافيزيقا.
فالحيوان، حسب ريلكه، هو كائن موجود في العالم. أما نحن، بني البشر، فنحن نوجد أمام العالم، وذلك بسبب الانعطاف الخاص والسمو الذي شهده وعيناه.   إن الاستدلال الهيدجري استدلال منسجم ومتناسق مع ذاته: فإذا كان سبب التعنيف التقني للكوكب الأرضي يتمثل في الأولوية التي تعطى لمسألة تمثل الكائن في صورة شيء جاهز وقابل للتحول، عن طريق التراجع نحو لافكر ولافعل، فإن بإمكاننا آنذاك أن نأمل في الخروج من عصرنا الذي هو عصر عناء وضنك، وذلك الموقف سيكون هو موقف بوذا Boudha الذي سعى، من أجل القضاء على الألم والمعاناة، إلى إبعاد السبب وهو الوجود من حيث هو ظاهرة وهمية يتعين الانفكاك عنها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©