الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تحريرُ الخَيال

تحريرُ الخَيال
6 أغسطس 2020 01:27

لم تمنع صور الصراع التي عرفتها العلاقة بين الأدب والفلسفة من وجود حالة دائمة من التساكن بين المجالين. يعتبر كل نمط أنه قطع أشواطاً في سبيل تلمس الحقيقة، أو اكتنه جملة حقائق؛ وبلغته التجريدية الصارمة في عقلانيتها أحياناً، والغامضة في صياغاتها أحياناً أخرى، كان الفيلسوف يدّعي الإحاطة بكثير من مستويات التفكير، سواء كانت علمية، أو فنية، أو أدبية. كما يقول الأديب إن حدود اللغة المنطقية لا تسمح بترجمة نبضات وأشواق وكشوفات ومشاعر تخترق العقل، وتتجاوز صرامة القياس. ومن ثم، فالحقيقة التي يبلغها الفيلسوف لا ترقى، حسب البعض، إلى مستوى قدرة المتخيل الأدبي على اكتناه الغامض بوساطة المجازات والاستعارات والصياغة البلاغية.

أدباء في ثياب فلاسفة
 ويبدو أن العلاقة المتميزة ببعض أشكال الصراع بين الأدب والفلسفة تتغير معالمها حين نعثر على فيلسوف يسكنه أديب ينتفض على تكوينه الفلسفي، ليلتجئ إلى استعمال اللغة الشعرية، أو نصطدم بأديب يستدعي منا كثيراً من اعتبارات السؤال والمقاييس الفلسفية. فأسماء مثل أبي العلاء المعري، والمتنبي، والتوحيدي، وهولدرلن، ودوستوفسكي، وبروست، وكامو، ونجيب محفوظ، وإبراهيم الكوني، ومحمود درويش، وأدونيس... أسماء احتكرها التاريخ الأدبي والممارسات النقدية، لكن نصوص هؤلاء الشعراء والروائيين لا يمكن حصرها في مجال الأدب فقط، لأنها تكثف في إبداعيتها أبعاداً فلسفية. 
 كما أن فلاسفة مثل ابن طفيل صاحب قصة «حي بن يقظان»، أو جان بول سارتر، وألان باديو، وآخرين، يُعتبرون فلاسفة، لكن الأديب فيهم كثيراً ما ينفلت من صرامة الفيلسوف، ليترجم تصوراته وأفكاره بوساطة الرواية، أو الشعر، أو القصة، أو المسرح. وهكذا يمكن للفيلسوف – الكاتب أن يضيف إلى الحقل الأدبي إسهامات لا تأتي من داخل هذا الحقل ذاته، كما يجوز للأديب المتفلسف أن يفتح سبلاً للتساؤل، قد تسعف الفيلسوف على تعميق كثير من رؤاه وتصوراته. وقد اعتبر «لوي ألتوسير» أن كل فلسفة تتضمن أدباً مخفياً، بل وذهب إلى القول إن الفكر الفلسفي لا يمكنه أن يتحقق إلا بشكل مجازي.

تكسير الحدود
 غير أن الفلسفة المعاصرة انتفضت على كثير من المقاييس العقلانية الصارمة التي تميزت بها الفلسفات الكلاسيكية، وانتهى عدد كبير من المهتمين بالفكر الفلسفي المعاصر إلى القول إن المسألة لا تتعلق بمجال معرفي أو إبداعي معين، بقدر ما تشمل قضية جوهرية يمكن تلخيصها في قضية الكتابة. وهذا ما يتبيّن  للمهتم بكتابات فلاسفة الاختلاف الفرنسيين، ولا سيما جان بيار فاي، وجيل دولوز، وجاك ديريدا، أو ألان باديو..، حيث قاموا في أعمالهم بتكسير الحدود بين الأدب، والإبداع بشكل عام، والفلسفة، وهذا ما يبدو لي ينطبق، أيضاً، على عدد من المفكرين العرب، ومنهم عبد الرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود، وعبد الله العروي، وناصيف نصار، أو عبد الإله بلقزيز، وغيرهم.
 غير أن هناك فارقاً ما بين اتخاذ موضوعات الإبداع منطلقاً للتفكير والتأمل، مثل ما يقوم به الفلاسفة عند دراستهم للرسم، وللرواية، وللشعر، وللسينما.. وما بين انتقال - أو تحوّل أو ارتحال أو عبور- الفيلسوف إلى الكتابة الأدبية بشكل مباشر، سواء كانت شعرا أو رواية. ولا نعدم الأمثلة في هذا المقام.
 ولعل ما يستوجب اعتباره، في هذا السياق، هو أن الكتابة ليست وسيلة من وسائل التعبير عما يجري في الواقع، أو أنها أداة بها يتمكن الكاتب من القيام بعملية انعكاس رمزي لما يعتمل داخل المجتمع؛ بل تغدو الكتابة نمط حياة، ومن خلالها ينخرط الكاتب في الصراعات التي تعبر عن التبادل الاجتماعي. غير أن انخراطه ليس ككل أشكال الانخراط، بحكم كونه يعمل على خلق زمنية مختلفة تتنابذ مع الزمنية السائدة، من حيث كونه لا يكف عن البحث عن ممكنات تغيير أساليب الكتابة، وتخطي فضاءات النقص فيها، متطلعا إلى كتابة مستحيلة الاكتمال دوماً.

الكتابة عن معرفة
 وإذا كانت الكتابة، بشكل عام، تكثيفاً رمزياً لحالات اجتماعية وثقافية ونفسية، وتجاوزاً للمألوف والراكد، ونداء مؤثراً لخلق جسور مغايرة للنمط التقليدي من التواصل، سواء كان تواصلاً مع الذات، أو المرأة، أو العائلة، أو القيم، أو الماضي، أو الغير، فإن الكتابة الأدبية والتأملية هي بحث دائم عن نص مستور. ولعل الذات الكاتبة، داخل سياق أصالتها، تُلغَى ضمن صيرورة فعل الكتابة، لأن شخصيتها توجد في عملية الكتابة بوصفها نتيجة ووسيلة في آن. هكذا تصبح أنا الكاتب أنا «نصية» إذا صح التعبير، تصوغ تفاصيل هويتها داخل ثنايا الكلمات والجمل والشخصيات. 
 وبفضل الرصيد المعرفي الذي يحوزه الكاتب، ترقي الكتابة إلى مستوى جمالي متقدم، ويمنحها أبعادها الفلسفية، فضلاً عن طبيعتها الأدبية. ويغدو التداخل بين الفلسفة والأدب عنصر إغناء لعملية الكتابة، سواء كانت روائية، أو نقدية، أو شعرية؛ حيث تتأسس كتابة تصوغ الزمن بمخيلتها الخاصة وأسلوبها المتميز، وتنتج قارئاً يتحرر من زمنية الانغلاق السائد، لترمي به إلى فضاءات التخيل والتحرر من شروط التكرار ووضعية الاستهلاك، وهكذا، تخلق قارئاً مبدعاً، هو بدوره، ومنتجاً لنص آخر في سياق قراءته، حتى يحصل ذلك التواصل الضروري الذي يستهدفه الأدب باعتباره نداء وإرسالاً، وعنصراً للتأثير وخلق التبادل. ما دامت الحياة تعاقب أحداث، فإن الكتابة بقدر ما تمنح منسوباً من الحيوية، توسع دوائر الممكن وارتياد آفاق جديدة.
 يعتبر دولوز أن كل فيلسوف كبير هو كاتب كبير، حتى وإن عبَّر عن شك فيما لو كان يمكن أن يعتبر هو نفسه «كاتباً في الفلسفة» أم لا. من هنا، أهمية النظر المتجدد في فعل الإبداع، والتساؤل عمّا يفترضه من اشتغال على اللغة وعلى الاختيارات الفنية والجمالية. فالكتابة تنويع على اللغة، على أن لا تقتصر على المستوى الخطابي، أو البلاغي، أو على التنويع في ذاته، مهما كان مختلفاً، وإنما أن تقترح تنويعاً يضيف بُعداً مغايراً، أو معنى جديداً، بوصفه توليداً للفوارق وفعلَ صيرورة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©