عندما تصغي، في الصحراء القاسية إلى ما يحيط بك من عالم تعرفه جيداً، يصبح من السهل عليك اكتشاف مخلوق يزحف على الرمل بخبث وحذر، ينوي قرصك، بينما أنت تقود دبابة مجنزرة، يهدر صوتها وهي تطحن الشجر مع الحجر فتحيلهما إلى ثريد، لا يجيد صنعه سوى الجندي الإماراتي.
ليست عاطفة ولا صورة أدبية تلك التي نرد فيها على المخلوقات التي تهمّ بالزحف من هضبة الأناضول، وتسعى للهيمنة الإقليمية، لكنها لا تعرف شيئاً عن صحرائنا، ولا عن رجالها الأشاوس الذين تعلموا الحكمة والدبلوماسية قبل أن يتعلموا فنون الحرب، وتفوقوا في الميادين المختلفة وحققوا الإنجازات العلمية الفريدة، وكل ما يعرفه أجداد العثمانيين، عن هذه الأرض، هو طعم الهزيمة التي لحقت بهم، وهم يولون الأدبار خارج الأرض العربية، في نهاية الحرب العالمية الأولى.
العودة إلى زمن رحيل العثمانيين والاستعمار المباشر عن الدول العربية في الحقبة الأولى من القرن العشرين، وظهور كتلة ما يسمى بإقليم «شرق المتوسط وشمال أفريقيا» جعل الحديث بعد ذلك عن القوى التي تحاول «الهيمنة على الإقليم»، ومنها: إيران، وتركيا، وإسرائيل، يبين اختلاف أهداف كل واحدة من تلك القوى في محاولاتها المستميتة للسيطرة على دول داخل الإقليم، سواء لغايات اقتصادية أو سياسية أو إثنية اجتماعية، ولكن المستغرب أن تلك القوى لم تدخل في صراع مباشر بينها، وقد لا يؤكد ذلك التآمر في ما بينها، كما يرى البعض، ولكن بلا شك تجتمع لديها جميعاً فكرة وحلم استعادة أمجاد الماضي، والذي ما زال العامل الأول الذي يدفعها لاستمرار محاولات القفز والتنافس لبلوغ تلك الثمار المحرمة.
بالمقابل، حاولت الدول العربية مقاومة هذه النزعة العدوانية للهيمنة على سيادتها أو نسيجها الاجتماعي والاقتصادي، ولاح ذلك في ظل الانشغال ببناء الدولة الحديثة وتهدئة الصراعات الداخلية في بعض الدول العربية، فتمكنت دول الخليج من الالتئام في مجلس التعاون وبناء القوة الاستراتيجية اللازمة لصد محاولات السيطرة ومنعها كلياً، وكذلك نما الدور المصري، خلال فترة الرئيس الراحل حسني مبارك، لقيادة الإقليم، خاصة في شمال أفريقيا، بتوازنات سياسية ودبلوماسية، خاصة مع دول الخليج العربي، ما أغضب قوى الهيمنة، وجعلها تدرس لسنوات طويلة طريقة هدم هذا الجدار المتين، الذي منع تقدم تلك القوى نحو أهدافها مباشرة، فاضطرت إلى تفعيل بعض الحركات المتطرفة، كـ «الإخوان المسلمين» و«حزب الله» و«حماس» و«الحوثية»، وانتظار الفرصة تلو الأخرى للانقضاض على القلاع المحصنة لمحاولة تحطيمها.
ومنذ ظهور ما يعرف بـ «الربيع العربي» في عام 2011، وظهور التخوفات العسكرية والأمنية في معظم الدول العربية، بسقوط بعض الأنظمة كالتونسي والمصري بيد «الإخوان المسلمين»، واستمرار الحرب والصراع في سوريا وليبيا، وسقوط صنعاء بيد الحوثي 2014، والتدخل التركي السافر في شمال سوريا، بدعم من دويلات الخيانة والإرهاب، كان لا بد لبعض القوى العربية التي تتصدر المشهدين السياسي والعسكري من تفكيك التخوفات الأمنية والعسكرية، من خلال التنسيق الثنائي أو التحالف الذي يضمن المكاشفة والمصارحة لتحويل التهديدات المحتملة، بكافة أشكالها، من عامل ضغط إلى عامل دعم يساهم بترجيح كفّة القوى العربية الشقيقة.
نجح «الرباعي العربي»، السعودية والإمارات ومصر والبحرين، نجاحاً مبهراً في تجفيف منابع ومصادر تمويل الإرهاب، كذلك نجح التحالف العربي بقيادة السعودية في محاصرة «الحوثية» الانقلابية المدعومة من إيران، ونجح التحالف الدولي، الذي تشارك فيه دول عربية، باقتلاع «داعش» من جذورها، وسينجح التحالف العربي غير المعلن، والذي يشمل ليبيا ومصر والسعودية والإمارات، ودولا باتت تدرك خطورة الهيمنة العثمانية، في الوقوف بوجه المخلوقات الزاحفة من هضبة الأناضول، ويبدو أن الوقت قد حان لإعلان ذلك التحالف الذي سيحسم الصراع الذي بدأ يتصاعد، وقد يتحول في أية لحظة ليصبح حرباً عالمية ثالثة.
السعي للسلام والأمن لا يعني على الإطلاق عدم القدرة على خوض المعارك الضاربة الطويلة أو القصيرة الخاطفة، وكذلك فإن مبدأي الحكمة والتسامح، اللذين تتسم بهما دولة بحجم الإمارات، لا يعنيان السكوت على التلميحات أو التصريحات التي تحاول مس غصن في شجرة غاف صغيرة، في طرف الصحراء، فالنفوس التواقة للدفاع عن أمن الوطن، والبيانات اللوجيستية المتوفرة تؤكد الجاهزية القصوى، كما تؤكد فتح جميع قنوات السلام والحكمة والدبلوماسية.