أعلن المتحدث باسم الرئاسة التركية، يوم الثلاثاء الماضي، أن بلاده «قد» توقف عمليات استكشاف الطاقة في شرق المتوسط لبعض الوقت، انتظاراً لمحادثات مع اليونان، وقال: إن أردوغان طلب تعليق هذه الأنشطة لمدة معينة «كنهج بناء» في التعامل مع موقف ألمانيا رئيسة الاتحاد الأوروبي حالياً، والتي طالبت بخطوات متبادلة لخفض التصعيد، وأشار إلى أن تركيا «تواصل» محادثاتها مع اليونان، وأنها مستعدة لمباحثات معها في كل الملفات، دون شروط مسبقة. وتمثل هذه التصريحات تراجعاً واضحاً عن مواقف تشبثت بها تركيا في هذه المسألة منذ تفجرت الأزمة مع اليونان وقبرص في شرق المتوسط، ومن هنا يثور السؤال عن السبب في هذا التراجع. ومن اللافت التناقض والارتباك في التصريحات التركية، سواء من المتحدث باسم أردوغان، أو منه هو شخصياً، فالمتحدث يقول: إن بلاده «قد» توقف عمليات الاستكشاف -وهو ما يفيد معنى «الاحتمالية»- وأن أردوغان طلب تعليق الأنشطة بالفعل؛ أي أن التعليق أصبح أمراً واقعاً. ولعل تخفيف التصريح بـ«قد» يأتي، كمحاولة لحفظ ماء الوجه، بعد سياسات الغطرسة التي سادت المواقف التركية منذ تفجرت الأزمة. وتستمر محاولة حفظ ماء الوجه بالقول: إن هذا الوقف سوف يكون «لبعض الوقت». وبحديث أردوغان لقناة تليفزيونية بأن طلبه جاء «كنهج بنّاء» في التعامل مع الموقف الألماني، والسؤال هو: أين كان هذا «النهج البناء» عندما راحت تركيا تتصرف وكأن شرق المتوسط برمته هو مياهها الإقليمية؟ والعجيب أن يتحدث أردوغان عن أن تركيا «تواصل» محادثاتها مع اليونان! فأين كانت هذه المحادثات عندما انطلقت التصريحات التركية عن حقوق وهمية قبالة شواطئ اليونان وقبرص، وعندما أرسلت قطعها البحرية لتهديد المياه الإقليمية للبلدين؟
واقع الأمر أن هذا التراجع جاء عقب سلسلة من التطورات التي لا يمكن تجاهل أثرها على سلوك أردوغان، فقد أعلنت اليونان بحسم جهوزيتها العسكرية للدفاع عن مياهها الإقليمية، وهددت ألمانيا صراحة بأن المواجهة اليونانية التركية المحتملة ستكون أوروبية، وفي الوقت نفسه، استخدمت ألمانيا سياسة «العصا والجزرة»، فأكدت الحاجة إلى خطوات متبادلة لوقف التصعيد، وقدمت إغراءات لتركيا، بتحسين العلاقات مع أوروبا، إن هي استجابت لمطلب وقف التصعيد، وأخيراً وليس آخراً، جاء دخول الولايات المتحدة على الخط ومطالبة وزارة خارجيتها بوقف عمليات التنقيب، وهو مطلب منطقي؛ لأن المواجهة العسكرية التركية اليونانية لن تكون تركية أوروبية فحسب، وإنما أيضاً مواجهة داخل حلف الأطلسي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، سوف تتسبب في مشاكل هائلة للحلف، وخاصة في ضوء الموقف الفرنسي المتشدد تجاه تركيا.
وتفسر العوامل السابقة، دون شك، التراجع الأخير في السياسة التركية التي تفتح حالياً عدة جبهات في سوريا والعراق وليبيا واليونان وقبرص والنمسا، بل وأرمينيا والاتحاد الأوروبي ككل، بالإضافة إلى مشاكل علاقتها بروسيا. وهو ما يعني أن هذا التراجع يمكن أن يكون مؤقتاً، لو اختلفت الظروف؛ بمعنى تراخي الضغوط السابقة على تركيا. لذا، من الأهمية بمكان استمرار زخم هذه الضغوط لمحاصرة عدوانية أردوغان، وهي ضغوط مفيدة في مواجهة العدوانية ذاتها على الصعيد العربي الذي عاثت فيه البلطجة التركية فساداً، إلى أن بدأت ردود الفعل العربية تتبلور في شكل حاسم، دبلوماسياً وعسكرياً. وتشير خبرة المواجهة العربية لتركيا إلى الدرس ذاته، أي أن تركيا لا تتراجع إلا عندما ترى «العين الحمراء». فقد استغلت انشغال سوريا والعراق بمشكلاتهما الداخلية، كي تعربد في أراضيهما، فلما وسّعت مسرح عملياتها في ليبيا، صادفت من ردود الفعل العربية ما جعلها تتراجع تكتيكياً حتى الآن، ولذا وجبت اليقظة التامة، وتعميق الحوار مع أوروبا التي تجمعنا بها مصلحة التصدي لأحلام أردوغان العبثية.