يقتضي التفكير في تغيرات الأعمال والموارد بالضرورة التفكير في تغيرات القيم المنظمة للحياة والأعمال. فالقيم تتكرس أو تختفي أو تصعد لحماية وتنظيم الأعمال والحياة والعلاقات، وتنشئها الأمم على نحو واع مقصود، أو مدفوعة بعقلها الباطن الذي لا تدركه تمام الإدراك، أو لا تعترف به، وقد لا تلاحظ ذلك بسبب بطء وهدوء التغير برغم عمقه وجذريته، وعلى سبيل المثال، فقد بدأ الطبّ طقوساً ورموزاً دينية أو تأملية غامضة، لكنه تطور مع الزمن بفعل الحاجة الملحة للعلاج والتداوي إلى علوم ومهن متقدمة، وربما تكون وصفات الأطباء التي تكتب اليوم بطريقة غير مفهومة من بقايا الوصفات والتعاويذ الطلسمية التي كان يعدها المعالجون، وربما يكون الدواء المرّ استمراراً غير واع للأدوية التي كانت تعد للمرض مرّة سيئة المذاق لتطرد الأرواح الشريرة (المرض) التي حلّت في أجساد المرضى. وفي المقابل، فقد بدأ السحر وكشف الغيب عملاً علمياً وتجارب واقعية للكشف عن خواص المواد وتحويلها (حجر الفلاسفة) أو استشراف المستقبل، ولكن بسبب الفرق الهائل بين الطموح والواقع تحولت علوم الكيمياء والفلك إلى السحر والغموض، واحتاجت البشرية إلى وعي جديد لتنقذ هذه العلوم من تجربتها المريرة، وما زالت أيضا بقايا العلاقة بين الكيمياء والسحر عالقة في ذاكرة الأمم، وعلى سبيل المثال فإن فتاوى علماء الدين في عصور سابقة بتحريم «الكيمياء» واجتهاداتهم في إقناع الناس ببطلانها، كانت في واقع الحال جهوداً اجتماعية وإصلاحية لمواجهة أعمال السحر والشعوذة. 
لقد لاحظنا وكتب الكثير عن صعود الفرد والفردانية في التنظيم الاجتماعي والأخلاقي للأمم، ومسؤولية الفرد أكثر من أي مرحلة سابقة في المشاركة الاقتصادية وتنظيم التعليم والعمل، وبطبيعة الحال فإن «الفردانية» تؤسس لمتوالية من العلاقات والتحولات الجديدة في الاقتصاد والاجتماع الإنساني، منها على سبيل المثال: المساواة والثقة والإتقان والتعاون والتسامح وعدم اليقين والنسبية والتشكلات الاقتصادية والاجتماعية الصغيرة والمتناهية في الصغر، لكنها في الوقت نفسه تترابط شبكياً على نحو يجعلها مؤسسات عملاقة وعالمية أو إقليمية أو وطنية وغياب القواعد والقوانين المنضبطة والدقيقة في تنظيم الحقوق والعلاقات (على الأقل في المرحلة الانتقالية للأمم)، ما يفسح المجال للتقاضي والتأثير والتفاوض في تسويات وتراتيب خارج المحاكم ومؤسسات تنفيذ القوانين، لكن بموافقتها وتنسيقها وإشرافها، لأنه وببساطة سوف ندخل في حيرة وتجارب جديدة حتى نصل إلى تشريعات وسياسات جديدة تنظم الحقوق والعلاقات والمشكلات والمسائل الناشئة، والتي لا تغطيها التشريعات والسياسات القائمة اليوم.
والحال أننا لا نملك لتنظيم حياتنا ومواردنا القائمة سوى هدف غير واضح تماماً لكننا نعيه بوعينا بضرورة تحسين حياتنا وبغرائزنا الأساسية، التي وهبنا الله تعالى إياها، وهي تقدير الحياة، وما ينشأ عن ذلك من معارف ومهارات تساعدنا على العيش حياة أفضل، أو تجنبنا المخاطر. هكذا نحتاج أن نفكر في المستقبل أو نمضي إليه بأكبر قدر من النزاهة والصدق لأجل أن نعرف ما نريد، وما يجب أن نكون، ثم نهيئ أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا لأجل اكتساب شروط المعرفة والحياة الأفضل، إننا في واقع الحال نسير في طرق ومسارات جديدة نصنعها بخطواتنا نحو أهداف وغايات لا نعرف عنها إلا القليل، لكنها تبدو لنا مثل سراب نتبعه. وربما يكون السراب للمرة الأولى في حياة البشرية (أو لمرات قليلة لدرجة الندرة) مورداً عزيزاً يمنحنا الأمل، ويجعل طريقنا مستقيماً قدر الإمكان، ويجنبنا من الدوران حول أنفسنا في تيه ويأس. هذا السراب تنشئه عزيمة ورغبة قوية وعميقة في السلام والحياة الكريمة.
*باحث وكاتب أردني