يمثل الحياد (ويعني لا شرق ولا غرب) بنداً من بنود الدستور اللبناني منذ عام 1920 (سنة إعلان لبنان الكبير). وتثار اليوم هذه المسألة بين أطراف متورطة بالخارج وأخرى غير متورطة. الأوائل في خانة إيران والبعث السوري، والآخرون صاروا اليوم بلا خانة، أقصد «السياديين»، وعلى رأسهم البطريرك صفير الذي أثار بعظته الأخيرة هذه القضية.
لكن هذه الظاهرة ليست بنت ساعتها ولا أخت زمانها، بل تعود إلى أكثر من مئة وسبعين عاماً، أي إلى القرن التاسع عشر، أيام السلطنة العثمانية وخصومها الغربيين والشرقيين (فرنسا وإنجلترا والنمسا وروسيا.. إلخ). فلبنان مؤلف من أقليات دينية، مسيحية وإسلامية، وبمفهوم آخر من أقليات مذهبية. وقد توزعت هذه الأقليات (سابقاً) على منصات الدول الكبرى، السنّة من حصة العثمانيين، والموارنة من إرث الفرنسيين، والدروز من نصيب الإنجليز، والأرثوذوكس من نصيب روسيا القيصرية. وقد جرت حروب بين هؤلاء (خصوصاً موارنة ودروز الجبل) وسقط مئات القتلى. وامتد الصراع من الخارج إلى الداخل، بأدوات محلية، على امتداد التحولات التي أصابت القرن العشرين بظواهرها السياسية وتقلب مواقع الدول فيه، حيث بات كل كلام عن الحياد مجرد لغو، ينتقل من مرجعية مذهبية إلى أخرى يتناوب فيها الغالب والمغلوب بمساعدة الخارج.
النقطة الأساسية هي المذهبية (نفرق بين بنيات الطوائف كواقع ديني واجتماعي) ولا يمكن الحلم بتحقيق «حياد ما» بوجودها لأنها نوع من «أدلجة» الدين وتسييسه واستغلاله وتشويهه. وقد باتت قاعدة ذهبية أن كل «زعيم» يريد أن يتخذ لنفسه حيثية يعتمد على خطين: إثارة العصبية المذهبية في طائفته، والاعتماد على الخارج (لدعمه معنوياً ومادياً وتسليحياً). كل شيء يتطيف، حتى الأحزاب اليسارية العلمانية عندما انخرطت في الحرب اللبنانية (1975) سقطت في اللعبة المذهبية بخطابها اللاعلماني، فقُسمت (بدعم عرفات) مناطق لبنان إلى «عروبية» وانعزالية. بل طلع علينا بعض اليساريين المشهورين بنظرية عنصرية عنوانها «الطبقة -الطائفة» بدلا من «الطبقة -المجتمع» و«الطبقة -الاقتصاد». فعرفات، ولكي يكرس وجوده في لبنان، لعب على وتر المذهبية، وسار حافظ الأسد على منواله، إذ دخل لبنان لإنقاذ «المسيحيين» الذين تتهددهم الحركة الوطنية التي حاولت ركوب المذهبية والقضية الفلسطينية لتغيير النظام اللبناني.
وحتى «14 آذار» عندما أعلنت ثورتها على وجود الوصاية السورية، كانت بمثابة تجمع أحزاب وعائلات مذهبية. ومَن تابع مجرى الصراعات في لبنان على امتداد نصف قرن الأخير، يدرك أن هذه الأحزاب تناوبت في تحقيق الغلبة على بعضها البعض، بدعم القوى الخارجية.. وسببت هذه التقلبات مئات ألوف الضحايا والمهجرين.
اليوم، كأمس.. ف«حزب الله»، وعلى غرار الميليشيات السابقة، أنتجته مرجعيات إيرانية، وزودته بعصبية مذهبية وأسلحة وأموال.. لكي يكون «ذراعها» في لبنان وأبعد منه ضمن مشروعها «الإمبراطوري». واستطاع السيطرة على كل مفاصل الدولة بتغطية مذهبية مارونية من رئيس الجمهورية وتياره.
وفي كل المراحل السابقة، والحاضرة، لم يكن للحياد مكان في هذه الصراعات: كل مغلوب يطالب الغالب بالحياد.. وهكذا دواليك.
نريد أن نقول إنه بوجود المذهبية، وتجذرها، وطغيانها، في ظل الأقليات، وبغياب أحزاب عقلانية وسياسية واجتماعية، لا أمل في أي حياد، ولا نأي بالنفس. الطائفية هي اللاحياد المطلق! وأخيراً نقول: إن المذهبية هي أصلاً صناعة استعمارية، ولهذا لم يمت الاستعمار لكنه تقمص اليوم بوجوهٍ أخرى.