عندما يعود المرء بالذاكرة إلى أيام الصبا والشباب، ويتذكر لبنان من خلال مصايف عالية الجودة وشوارع وأبنية بيروت النظيفة التي كانت تشع جمالاً وتبعث في النفس سروراً، فإن حوادث الانتحار هرباً من الجوع التي بدأت في التواتر مع بداية شهر يوليو 2020 تثير قلقاً شديداً وخوفاً على مستقبل هذا البلد الذي كان يوماً غاية في الجمال، وقبلة سياحية مألوفة لدى عرب الخليج العربي، وذا معزة خاصة وتقدير واحترام في الأوساط الرسمية والشعبية كافة على مدار العالم العربي من مشرقه إلى مغربه.
الأحداث الأخيرة في لبنان تعد مؤشراً خطيراً على أن الأمور لا تسير نحو حسم قاطع للمشاكل الاقتصادية والاختناقات السياسية ومظاهر التدهور الاجتماعي، وهي تسير من سيئ إلى أسوأ، بشكل رهيب، يكاد عقل الإنسان العربي الغيور على لبنان وأهله لا يصدقه، أو يقتنع به أو يوجد لديه مجرد استعداد لتقبله.
لكن التطورات والأحداث الجسام التي تدور على أرض لبنان لا يمكن النظر إليها أو فهمها بمعزل عن الفوضى العارمة التي تلم بالعالم العربي منذ ديسمبر 2010 يناير 2011، مثلما أنه من المستحيل ترجمة تطلعات اللبنانيين وطموحاتهم إلى واقع ملموس دون أن يوجد لدى كافة نخبهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية استعداد لتبني مواقف إيجابية أكثر مصداقية وواقعية ووضوحاً وصلابة ووطنية تجاه أنفسهم أولاً، ثم تجاه بعضهم بعضاً وتجاه شعبهم ووطنهم دون الالتفات إلى المحاصصات والانشقاقات والانقسامات والتنازعات التي تضر بهم وتضر بوطنهم أيما ضرر.
وفي الوقت نفسه، فإن بلورة - وعند الضرورة - إصلاح المسارات المنتهجة من قبل الحركات الوطنية بأطيافها وألوانها وقياداتها كافة لكي تواكب المرحلة الحرجة التي تمر بها بلادهم، فمثل هذا الأمر هو اللبنة الأولى التي يمكن أن تبني عليها الحركة الوطنية اللبنانية مواقفها ومساعيها في مواجهة ما يقوم به «حزب الله» وداعمه الخارجي إيران التي لا يهمها أمر لبنان أو اللبنانيين بقدر ما يهمها تصدير أنموذجها وثورتها وشعاراتها وأهدافها التوسعية إليهم وإلى العرب الآخرين بغرض تحقيق مصالحها.
وما أراه هو أنه من المستحيل إعادة اللحمة اللبنانية التي كانت سائدة قبل أن يبث الغرباء سمومهم الطائفية في أوساط اللبنانيين، أو استعادة لبنان كوطن حر الإرادة كامل السيادة، أو زمام الأمور فيه، أو تحرير أراضيهم المحتلة في الجنوب، أو استعادة هويتهم العربية بمعزل عن الحالة السائدة حالياً في العالم العربي، أو بمعزل عن دعم أشقائهم العرب لهم.
الصورة القاتمة التي يمر بها لبنان حالياً، خاصة شظف العيش، وقسوة الحياة، وتردي المعيشة، وغلاء الأسعار، وانهيار قيمة العملة الوطنية، تجعل من المستحيل إصلاح الأوضاع الاقتصادية دون عودة الاستقرار السياسي والأمني والوئام الاجتماعي أولاً، ودون القضاء المبرم على المواجهات والانقسامات السياسية القائمة حالياً، ودون وجود برامج وخطط وطنية واضحة يتم تنفيذها على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، بحيث تعم جميع اللبنانيين- بعيداً عن الانقسامات الطائفية والحزبية والمناطقية- والتي تلبي المتطلبات العاجلة للمرحلة الحالية وترفع شظف العيش وضيق الحال عن فقراء لبنان جميعاً، التي تشير التقديرات إلى أن 90 بالمائة من اللبنانيين يصنفون ضمن هذه الفئة.
وكما أشرت، فإن ما يحدث في لبنان مرتبط عضوياً بما يحدث في البلاد العربية الأخرى، فنحن نرى ما يحدث من المزيد من الفوضى في كل مكان تقريباً، مع تدهور شديد للأوضاع في سوريا، وليبيا، والعراق، واليمن، والسودان، وفي لبنان ذاته مع تراجع شديد للأدوار الشعبية وللقوى الوطنية بأطيافها وتوجهاتها كافة، مع بروز استقواء شديد للأطراف المعادية لإرادة الشعوب العربية والمدعومة من الخارج، الأمر الذي يعيق الشعب اللبناني والشعوب العربية الأخرى التي تتشابه ظروفها مع لبنان.
ما هو حادث في لبنان يؤكد أن القوى الوطنية والشعبية تواجه صعوبات شديدة في تجاوز مصاعبها المعيشية، وهي على ما يبدو لن تستطيع تحقيق تطلعاتها وأهدافها إلا بتضامنها والتئامها ورص صفوفها كوحدة واحدة. وللحديث صلة..
*كاتب إماراتي