من يروّض الحرية؟ من يشدّ لجامها، ويثبّت سرج الريح على ظهرها، وينطلق؟ هل هو أنت، أيها المفتوك بك في العقل؟ هل هما أنتما، أيها التوأمان المتخاصمان على رغيف الخبز؟ وهل هي الجموع، وقد اختلفوا على مدلول المسكوت عنه، وعلى المعاني المتعددة لكلمة «الصمت»؟
من؟ والحريةُ في الأصل ليست حصاناً، وذيلها الطويل ليس نهراً للراغبين في التطهّر من خطيئة أفكارهم. والحرية ليست امرأة تأتي خلسة آخر الليل ويوقظُ خلخالها أمّة الغفلة، ويعلو صوتها في حناجر الشُّرّاح، وسدنة التفاسير المغلقة، لا.
إنها الفراغ المطلق في طبل الخرافة. إنها تصفيق يدين في الماء لرجلٍ يغرق. وهي الدفترُ الذي يُحرق كي تتدفأ هرّة البيت، والحذاء الذي يُرمى في النهر، لكنه يظل طافياً فوقه، كأنه خطوة المسافة، واتجاه البوصلة، وقارب نجاة الهاربين من قسوة ظلالهم.
هل قال الفيلسوف إن الحرية قبّعة التمثال العنيد؟ وسريرها مهدهُ؟ هل فرش الخائفون كتب الشك وراكموها سلالم فوق بعضها، كي يصلوا لاطمئنانهم؟ أم أن الحرية مجرد نردٍ في يد المغامرة، متى ما رمى الزمنُ قتلاه، فازت. ومتى ما عطس جندي في الحرب، شعّ دخان نبوغها، وصارت وهماً في أفق الذاهبين إلى البحث عن ذاتهم خارج ذاتهم؟
تسعُ مرات طرقتُ على باب الحرية، ولم يُكسر. تسعون يوماً تقلّبتُ في رحم المكان، ولكن حين ولدتني أمّي كبرتُ مشتاقاً للبعيد. لاحقتُ النساء الطويلات في الحلم ولم أمسك إلا بظلالهن. وجرّني من أذنيّ صوت نداء حزين لطفلٍ كان يلاحقُ الفراشات في الحقول الشائكة، وأنا تبعته مقلّداً روحه الحرة، ورغبته الدفينة بأن يطير. ها أنا أكبرُ، ولحنُ الحرية ذاك يصغرُ. ها أنا أدفعُ السفينة كي أدخل البحر، فتعيدها الموجةُ الكافرة وتقول: كل دخول في الرحيل، أسف. كل ابتعاد في المدى، هتكُ عين، ومحو ذكرى، وكشطُ أثر. وسيكون لزاماً على قلبي أن يغمض عينيه ويقبل أن يرفرف بنصف جناح. ولزاماً على العقل أن يفتّش عن خلاصه من السؤال الكبير: من أنا في الزمن؟ ومن أنا خارجه؟ وإذا اجتمع الضدان فيّ، من أصير؟
مضحكٌ أن تكون الحرية مجرد طائر على غصنٍ مكسور، وفمها مذياعٌ مغلق، وجناحاها غلافا كتابٍ ممنوع. ومبكٍ أن الحرية هي نفسها فهرس الجوع، والذهاب إليها ينتهي دائماً، بلا رجوع.