مدّ البصر فالتمعت له عينا طفلته الصغيرة، مثل لؤلؤتين في قاع سحيق، وعندما كحّت الصغيرة ارتجف قلبه، وارتعدت فرائصه، وكانت زوجته تلبد بجوار سرير طفلتها كقطة واهنة، ولما استعجل زوجته بأن يصطحب الطفلة إلى المستشفى، راغت رغبته بجفول قائلة: لا تتعجل الأمر، إنها تعاني من لحمية الأنف منذ زمن، وهذا ما يسبب لها الاحتقان، والأذى في الصدر.
انتابه شعور بتأنيب الضمير، وساوره الخوف، وأمسك بفنجان القهوة، الذي صار يقلبه كقارئ البخت، وعيناه منصوبتان نحو وجه الطفلة التي ذبلت، وأطلّت عليه بنظرات عتب اختفت خلف بريق طفولي، انسل إلى قلبه، كأنه وميض البرق، في ليلة شتوية عاصفة، قالت له الزوجة: «منذ زمن»، وتساءل في نفسه: منذ متى بالتحديد، وكيف كانت الصغيرة تصرخ في الليل من ضيق التنفس؟ ويسكتها بزجر، ونهر، ثم يغادر سريره عندما لا يكف شخيرها عن الهذيان، وينام قرير العين هانئاً في مكان ما من المنزل، على أريكة منزوية خلف جدار هامد، مثل بحر انحسر عن سواحله.
فكّر في الأمر ملياً في اليوم التالي، عندما تلقى مكالمة من صديق، يدعوه لسهرة باذخة، وراح يقلب الأمور، ويتقلب على خاصرة الأريكة التي أسند ظهره عليها، وأدار مفتاح التلفاز لعلّه ينشغل بمشهد تلفزيوني، وينسى الإغراءات التي بثها الصديق كطعم يستدرجه به، وينأى به عن عيني صغيرته.
حاول أن يحيد الضمير، لكي يلقي سلاح التأنيب، ويتخلى عن توبيخه، ولكن عينا الصغيرة كانت تلاحقه، وتسلّط عليه أضواء مشعّة، إلى درجة أنه ضجر، وصار يتمتم بصوت خافت لم تفهم الزوجة ما كان يرمي إليه، وعندما فكّرت الاستدلال على معنى ما ذهبت به تمتماته، اعتدل في جلسته، ونظر إلى الزوجة بعينين شاخصتين، وأناخت الزوجة بعير أسئلتها، واكتفت بالصمت، كما كانت تلوذ إليه في أيامه الخوالي.
اكتظ الرجل بمشاعر الإقدام، والإحجام، وما بينهما صار يلعق ريقه الناشف، ويسدّد نظراته الحانقة نحو الزوجة، والتي انبرت تؤيد رغبته في مغادرة البيت، مفضّلة ذلك على بقائه كالمحكوم عليه بالإعدام.
جالت في خاطره أفكار وصور، ومشاهد مزرية، وأحس أن العالم يهوي إلى حفرة سوداء، بينما التأم شأن الزوجة على قناعة أنه ما من عادة تكسر، إلا بإرادة صلبة، وعزيمة قوية.
عندما أقدمت الطفلة نحوه، تخفق بمشاعر الحب، ورمت جسدها الضئيل في حضنه، شعر الرجل بأنفاسها تتدفق من فمها الصغير، مثل نسيم ينساب من بين خميلة مترفة بالعفوية، اشتد وجيب قلبه، واستيقظت نوازع قديمة، كانت تدق أطراف القلب، ويتمنى أن تنجب له الزوجة فلذة تضيء له غرفة قلبه بلؤلؤتين، كهاتين اللتين تتوسطان وجه هذه الصغيرة، بعدها قرر ألا يفارق سريره.