اكتسبت وقتاً طويلاً حتى تفتح عينيها على العالم وترى الوجود كما هو. توقفت عند مفصل الشارع المؤدي إلى السوق الكبير، ونظرت إلى حشد من الكمامات والقفازات التي تملأ وجوهاً بدت أشبه بالأشباح أو الكائنات الفضائية، اقشعرت فرائصها وهي تتأمل المشهد، وكأنها عابر سبيل مر بمضارب قوم تبعثرت نياقهم إثر عصف، ونسف.
تمرّغت المرأة بحوض أفكار كسيوف جاهلية، حاولت أن تدرأ عن نفسها خطر المثول أمام حشرجة المكان، ولكن عندما تتعثر بالصور الجاهمة، تنتابها أعاصير المباغتة، فتنكص إلى مراحل طفولية، وتفتح صفحات كتاب «مزنجل» بعبارات مدهشة، وجمل شعرية يهش لها القلب، ويبش.
عندما دخلت المحل التجاري الفخم، كان خاوياً، كان يلملم أشياءه الصغيرة، وتفاصيل أحلام كانت زاهية بجلال ما رتعت به غزلان الحياة من عشب العطاء الذي ما كان له أن يذبل لولا حدوث ما حدث.
في محل بيع الإكسسوارات، مرّرت أناملها الرقيقة على سوار من ماركة عالمية فارهة، ونظرت إلى البائع الذي ترقب طلبها بشغف التجار الذين ألمّت بهم جائحة الانحسار المريع.
بعد برهة من تقليب المشاعر بين هذه القلادة وذاك القرط وهذا السوار، استقر رأيها على نوعية حركت لب الفؤاد، واستدعت لحظة من لحظات العمر، كانت تقوم بالتجوال بين هذا المحل وذاك من قطع أنفاس تحت وطأة قماشة باتت مثل صبغة الجدران المقشرة أو قفاز جثم على اليدين، فأخفى إبداع الخالق في خلقه.
خرجت من المحل، وغذت السير إلى رواق دلها على محل لبيع الأقمشة، كانت المرأة وجلة، ويجفل قلبها كلما اصطدمت بوجه مقنع، وأصبحت كأنها تجوس في غابة، ويطاردها شبح الخوف، فكّرت بالهروب، فكّرت بالفرار، لأن الحلم الأبيض، غشّته غلالة قاتمة، هيّضت فيه أجنحة التحليق من دون رجفة أو رعشة، من دون وجل أو ضجر، فهذا الصباح الـ «كوروني» لا يبدو عليه أنه سينجلي، طالما بقيت الأجساد تتلاطم مثل الأمواج، وصارت رغبات التمرد على الحقيقة مطلقة اليدين.
عند مفترق طرق، لمحت صورة المطعم الذي طالما ارتادته بمشاعر مفتوحة على العالم، وكان رفيق الدرب يتأبط ذراعها ويأخذها إلى هذا المكان الشاعري، ويجلسان معاً متقابلين، كانت عيناه تشع بوميض حلم بهي، وكلماته تفيض بالعذوبة.
اشتاقت إلى زمن، وضجرت من زمن، فضمر قلبها حتى أصبح كقطة مريضة، فأسرعت خطواتها، خافقة بألم مبرح، مزّق صدرها، وهي تنظر إلى الباب الزجاجي وقد علقت عليه لافتة كتب عليها، مغلق حتى إشعار آخر.
رائحة المشاوي اختفت كما تختفي النجوم تحت قماشة سحابة داكنة، ومشهد الناس الذين كانوا يدخلون ويخرجون، قد توارى خلف حجب الفراغ المبهم. المكان أصبح جزيرة مهجورة.