اغتيل الباحث العراقي في شؤون الجماعات الدينية المسلحة والإرهاب هشام الهاشمي؛ بمنطقة زيونة شرقي بغداد(مساء 6-7-2020)، تاركاً أرملة وثلاثة أيتام. كانت وسيلة الاغتيال كاتم الصَّوت، الذي اخترعه الأميركي- البريطاني هيرام مكسيم (ت1916)، اخترعه لعمليات القتل السّرية، السنة (1908)، ومِن ذلك التَّاريخ ظل «كاتم الصّوت» في القتل الأخرس، وهشام الهاشمي ليس آخر المغتالين بـ«كاتم مكسيم»، هكذا كان اسم السِّلاح الغادر، فكتمانه شأن الأمراض الخبيثة الصامتة، التي لا تظهر أعراضها حتى تتمكن مِن ضحاياها.
بيد أن أصحاب الكاتم، الذي انقض على الهاشمي، لم يُحسنوا الكتمان هذه المرة، فصوته قد ظهر قبل طلقاته بأيام. بدأ مخطط الاغتيال بالتَّهديد المفضوح، وعندما نقول مفضوحاً، نعني أن المُهدد بالقتل لا يخشى أحداً، طالما وراءه حشد ولائي يحميه، ولا يحتاج إلى السَّرية، فهو القوة الأكثر تمكناً في الدَّولة العراقية، وهل يخشى منفذ الإعدام أحداً، وهو يُنفذ أمر القضاء الرَّسمي؟! ليست مبالغة إذا قلنا إن قاضي الجهة التي أصدرت ونفذت الاغتيال بالهاشمي تعتبره حكم إعدام رسمي، لأنهم يعدون أنفسهم «كتائب الله»، نفذوا الحد بزنديق، مِن وجهة نظرهم، تزندق عبر تخصصه في شؤونهم و«دواعش».
كان صوت الكاتم مسموعاً، يعلو على صراخ الأيتام الثلاثة ونحيب الأرملة. لا يسأل حامل الكاتم، ولا الذي أفتى له، عمّا سيتركه مِن أيتام وأرامل، ومعلوم ما صلة التَّرمل بالعيش على الرِّمال الجرداء، لا طعام ولا كساء، وما صلة اليُتم بالوحدة والوحشة مِن ظلِّ أبٍ أو أمٍّ. كان «كاتم مكسيم» وراء الغدر بسبعمائة مِن المتظاهرين، فكم أرملة توسدت الرِّمال في هذه الأجواء المكفهرة؟! ومع أن الجهة التي نفذت المجزرة معروفة، لكن الدليل الذي يطلبه القضاء مشروط بالمتهم ألا يكون ولائياً، والقضاء العراقي الوحيد الذي لا يُحقق ولا يدعي، إلا مع مَن لا ولاية فقهية ولا حزب له.
بعد سبعة عشر عاماً، أحرج اغتيال الهاشمي مجلس القضاء الأعلى، ليعلن عن تشكيل لجنة خاصة بالاغتيالات، فـ«كاتم مكسيم» كان مسموعاً هذه المرة. صار خبر تشكيل اللجنة محل استهزاء المفجوعين مِن الأرامل والأيتام، يشعرون أنهم يعيشون ببلاد غلب فيها فحيح الأفاعي أغاريد الطُّيور.
أكثر مِنه سخريةً، أن مفتي الاغتيال يستنكره، وهنا نستعين بما يسمعه أصحاب الكواتم كلما جلسوا تحت منابر عاشوراء، ويجهشون بالبكاء على أرامل وأيتام كربلاء. يقول المشهد، الذي يرويه ابن طاووس(ت664هـ) في «اللهوف في قتلى الطّفوف»، وهو مِن كبار مراجع الإماميَّة في زمانه، بأن علي بن الحسين(ت95هجرية)، بعد أن مرّ والسبايا بطرقات الكوفة، وشاهد البواكي على الجانبين، قال مستغرباً: «تنوحون وتبكون من أجلنا، فمن ذا الذي قتلنا»؟! ونقول: من له حرية تخزين الكواتم يتمتعون بحرية القتل، وهم البواكي على المغتالين رياءً وسخرية مِن النَّاس؟
أشعر أن الجهة التي تملك كواتم الصَّوت علانية، وبمواربة فاقعة تقوم بالاستنكار؛ تعتقد أن العراقيين بسطاء إلى هذا الحد؟! الأفظع مِن هذا يظهر مانشيت في فضائية ساندة لحملة الكواتم، يقول عن الهاشمي، احتفالاً بفرحة اغتياله: «الشيعي الذي صار سنياً»، ما اعتبره النابه أحمد الأبيض، أنها «فتوى قتل»! فعند الطَّائفيين يكون هذا التَّحول ردةً، وتهوين الاغتيال عند سواد الشِّيعة، مع أن الهاشمي الذي ضم جثمانه تراب مقبرة النَّجف، لا يشغله موضوع سُنَّة ولا شيعة.
اغتيل الهاشمي وهو ابن السَّابعة والأربعين، بدأ اهتمامه بالمتشددين منذ 1997، ولكثرة شغفه اتُهم بهم، فسجن، وأُطلق سراحه مع مَن أُطلق قُبيل(2003).
أصدر كتاب «عالم داعش». إلا أن تقريره «الخلاف الداخلي في هيئة الحشد الشعبي»(1/7/2020)، المنشور قبل اغتياله بخمسة أيام(مركز صنع السياسات)، ومقابلاته الأخيرة، عجل بـ«كاتم مكسيم» إليه، لأنه مس صندوقهم الأسود، وفضح جيش المستعمر السِّري. نستأذن الأستاذ البردوني(ت1999): «فظيعُ جهل ما يجري/وأفظع منه أن تدري/وهل تدرين يا(بغداد) مَن المستعمر السِّري»(الغزو مِن الدَّاخل)! نعم بغداد تدري، والقوى المتحكمة تدري أيضاً! لكن وجودها في السلطة مرتبط بـ«كاتم مكسيم» والمستعمر السِّري.