بدأت الاحتجاجات الشعبية السورية مطالبةً بعزل ضابط أمن احتجز أطفالاً في درعا، ومن هذه اللحظة التاريخية الفاصلة بدأت تحولات القضية السورية، بأخطر من التحولات في القضية التونسية التي بدأت باحتجاج البوعزيزي على صفعة تلقاها من شرطية إلى ثورة شعبية عارمة أطاحت بنظام الحكم. وكان امتداد هذه الاضطرابات إلى ليبيا ومصر واليمن وسوريا سريعاً. وقد نجت دول عربية أخرى من ذلك الطوفان لأن شعوبها لا تعيش تلك الظروف القاسية، ولأن المسافة فيها بين المجتمع والقيادة السياسية أقرب وأوسع وأرحب، لاسيما أن هذه الدول شهدت تنمية جادة خلال العقود الماضية، بينما غرقت دول عربية أخرى في مستنقع فساد كبير عطل قدراتها على التقدم والتطور، وبعضها أحكم قبضة أمنية قاسية على أعناق الناس.
وفي سوريا تدرجت المطالب الشعبية في الصعود، وظهرت شعارات تطالب بإقالة المحافظ، ولم تستجب الحكومة مباشرة لمطلب المتظاهرين، لاعتقادها أن أي تنازل سيجعل المطالب تصعد، لكنها صعدت بسبب عدم الاستجابة، وسرعان ما تدرجت إلى رفع الشعار الشهير: «ارحل».
وبعد مخاض دموي شغل البشرية كلها، بدأ التنازل التدريجي في مطالب المعارضة التي كانت تسيطر على 80% من مساحة سوريا، لكنها تقلصت كثيراً بعد أن ظهرت التنظيمات المتطرفة، مثل «داعش» و«النصرة»، التي خاضت معارك شرسة ضد «الجيش الحر» بوصفه مرتداً، وبذلك ساعدت على التخلص من المعارضة المسلحة. وكان تدخل إيران وأتباعها قد فشلوا في قمع الاحتجاجات، رغم فظاعة ما ارتكبوه من جرائم إبادة ضد المدنيين، مما دعا روسيا للتدخل في اللحظات الحرجة. وقامت دول «أصدقاء سوريا» بعقد مؤتمر الرياض الأول لتوحيد قوى الثورة والمعارضة. وأعلن مجلس الأمن الدولي، تزامناً مع نهاية المؤتمر، قراره رقم 2254، مؤكداً نهاية المطالبة بإسقاط السلطة، وتحول الهدف إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي تشارك فيها جميع الأطراف. وإن كان القرار لم يشر إلى موقع رئاسة الجمهورية، فإنه أوحى في مضمونه بتغيير شامل، حين تحدث عن نقل كامل الصلاحيات الرئاسية إلى «هيئة الحكم الانتقالي»، وقبلت المعارضة بهذا التفسير على مضض، فقد كانت تريد نصاً مباشراً صريحاً، ويبدو أن روسيا التي ساهمت بصياغة القرار تمكنت من أن تترك فيه نوافذ للمناورة السياسية، كما أنها فتحت بوابة تدخل منها منصات وتنظيمات أخرى كان أقربها إلى مؤتمر الرياض «منصة القاهرة»، وكان أبعدها عنه «منصة موسكو».
وبدأت تحولات أخرى في مطالب المعارضة، حين خضعت لمطالب دولية بخطة روسية، أبرزها كان القفز فوق تراتبية القرار 2254، والبدء بوضع دستور قبل البدء بتشكيل هيئة الحكم التي يكلفها القرار الأممي بتشكيل الحكومة، ووضع الدستور والإعداد للانتخابات البرلمانية والرئاسية.
وعلى الرغم من الغصة التي شعرت بها المعارضة، وقد فقدت قواها العسكرية واللوجستية مما اضطرها إلى أن تذعن لمطالب الدول، فقد سارعت بتشكيل وفدها إلى اللجنة الدستورية، لكن الطرف الآخر أعلن أن وفده إلى هذه اللجنة لا يمثل الحكومة، وكان أولى بالمعارضة أن تطالب بوفد يمثل الحكومة، فما سوى ذلك تضييع وقت. وقد تعطلت أعمال اللجنة الدستورية التي ولِدت ميتة، ولم يبقَ في الحراك السياسي ما يدفع القضية نحو الحل، ولم يعد أمام بيدرسون ما يفعله.
وقد جاء قانون قيصر تحولا جديداً في مسار القضية السورية، ومع أن المعاناة الشعبية وانهيار العملة الوطنية بدءا قبل نفاذ قانون قيصر، إلا أن الحالة النفسية للشعب زادت من قلقه وتخوفه من المجاعة، وبات الوضع الاقتصادي على شفا انهيار شامل، ومن المتوقع أن يتفاقم في الشهور القادمة مع إصرار الجانب الرسمي على تعطيل مسار الحل السياسي، وتعطيله للتسويات كما يحدث في الجنوب، مما جعل روسيا ذاتها تضيق بصراعاته الداخلية وبحجم الفساد الذي يزداد، وباتت تبحث عن مخرج وبديل، مع حرصها على بقاء الوضع ضماناً لمصالحها.
ولئن كنا نقول في دواخلنا «رضينا بالبين ولم يرض بنا»، فإننا نصر كذلك على مقولة عربية قديمة: «لابدّ مما ليس منه بدّ».

*وزير الثقافة السوري السابق