سأعترف أمامكم بأنني أقلعت لزمن عن مشاهدة مباريات «الكالشيو» الإيطالي، ليس فقط لأن «السيدة العجوز» استعادت نضارتها وحيويتها وبريق تكتيكها، فأمسكت بخناق اللقب ولم تخل سبيله، فقتلت بذلك كل إثارة مفترضة في بلاد الطليان التي عرف دوريها بأنه عرض مفتوح لجنون التكتيك، ولكن أيضاً لأنه بهيمنة اليوفي التي تقتل كل متعة ولذة للمطاردة الفعلية للنزالات، استقالت السواعد الكبرى، بل وأعلنت أنها رضيت بالتنافس على ما عافه السبع، فما رأينا في العشرية الأخيرة سوى ظل الإنتر وشبح روما وهلوسات الميلان ومراهقة نابولي.
للأمانة كل هذا وغيره صرفني عن دوري كنت أستمتع به على زمن يوفي بلاتيني وبونييك، وميلان رايكارد وخوليت وفان باستن، ونابولي مارادونا وكاريكا، وإنتر زانيتي ورونالدو، بل إن وصول «الدون» كريستيانو إلى اليوفي ما أغراني إلا لماماً بمشاهدة ما يأتى لي من مباريات، إلى أن قادتني المصادفة لأجلس أمام التلفاز متتبعاً قمة بعطر الأسطورة بين الميلان واليوفي، وللأمانة فقد أيقظت هذه المباراة بداخلي ما كان نائماً من أحاسيس.
كان اليوفي يلعب مباراة حاسمة في سباقه نحو لقب «السكوديتو» التاسع له توالياً أمام ميلان يعاند نفسه من أجل مرتبة تضمن له مشاركة خارجية.
طبعاً خلت الجولة الأولى من الأهداف، إلا أنها ما خلت من متعة المبارزة بين ميلان متحدٍّ لنفسه ويوفي يستطيع أن يوجه المباريات، حيث تميل الرياح، لتأتي الجولة الثانية مثل هدايا رأس السنة، حلوى ملفوفة بشريط أحمر تفتح شهية المشاهدة.
نجح اليوفي في وضع الكثير من «الفرمانات التكتيكية» إلى الحد الذي جعله يفتح حدائق في دفاع الميلان، فتمكن الفرنسي رابيو من تسجيل هدف أنطولوجي بعد أن مشى بالكرة 50 متراً ليسدد في الزاوية البعيدة، ووضع «الدون» كريستيانو كعادته بصمته لتتقدم «السيدة العجوز» بهدفين في أقل من 8 دقائق من بداية جولة الجنون، وقد توهمت كما توهم الكثيرون، بأن اليوفي وضع نقاط المباراة في خزنة حديدية ورمى بمفاتيحها في عرض البحر، نعم توهمت ذلك، لأن ما سيحصل كان بالفعل ضرباً من الجنون، ذلك أن الميلان سينادي على صوت عميق صعد من مستودع الأساطير مدوياً ومجلجلاً، ليحدث بالمباراة ما يمكن وصفه بالطوفان أو الزلزال العنيف.
سيتمكن الميلان في أقل من 18 دقيقة من صنع «ريمونتادا» تاريخية، بتوقيعه أربعة أهداف حولت خسارته المحسومة إلى فوز هلامي، لا أظنه سيحجب شمس اللقب عن سماء اليوفي ما دام أن لاتسيو المطارد سقط هو الآخر بميدان ليتشي، إلا أنه سيُبقي ذرة إثارة تجعلنا نتمسك بخيط الأمل في مشاهدة خاتمة جميلة للدوري الإيطالي، أما أنا فأعلن من الآن أنني عائد إلى حضن «الكالشيو» لو كان سيهديني مباريات بنفس جنون قمة الميلان واليوفي.