بعد حادثة مقتل الشاب الأميركي الأسود جورج فلويد، اندلعت موجة واسعة في كبريات المدن الغربية لتحطيم تماثيل بعض الشخصيات والرموز التاريخية الكبرى، باعتبارها مسؤولة عن تجارة العبيد أو الاستعمار. 
وفي مدينة بريستول البريطانية، تم تفكيك تمثال «إدوارد كولستن» الذي يعرف في بلاده أنه من الشخصيات السياسية البارزة ورجال الأعمال الذين أنفقوا ثرواتهم في العمل الخيري، في الوقت الذي كان من أكبر تجار العبيد في نهاية القرن السابع عشر، وقد بنى ثروته من هذه التجارة المقيتة.
وفي مدينة أكسفورد اندلعت مظاهرات حاشدة لتفكيك تمثال رجل الأعمال والسياسي «سسيل رودس» الذي وضع نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
وفي الولايات المتحدة الأميركية تم تفكيك عدد من تماثيل الضباط البيض في المدن الجنوبية، وبلغت موجة الاحتجاج تمثال الرئيس الأميركي الثالث «توماس جيفرسون»، أحد محرري الدستور الأميركي، الذي كان يملك عدداً من العبيد السود. 
وفي فرنسا تعرض تمثال «جان بابتست كولبير» للاعتداء، وهو أحد بُناة الدولة الفرنسية الحديثة وباني «قصر فرساي»، بيد أنه أيضاً هو واضع «القانون الأسود» الذي ينظم تجارة الرقيق الأفريقي. كما أن أصواتاً كثيرة ارتفعت للمطالبة بتفكيك تمثال «جيل فري»، السياسي الفرنسي البارز الذي أسس المدرسة الجمهورية وأرسى نظام العلمانية الدستورية، وإن كان في الوقت نفسه المسؤول عن السياسات الاستعمارية الفرنسية، من منظور «واجب تمدين الأعراق السفلى».
الرئيسان الفرنسي والأميركي واجها الموجة الاحتجاجية بتذمر وحدة، واعتبرا أنها حركة عدمية خطيرة تستهدف محو الذاكرة الوطنية وهدم أسس الهوية التاريخية للبلدين. إلا أن الحوادث المذكورة لم تكن في الواقع مجرد أحداث ظرفية عابرة، بل تحيل إلى نقاش جوهري انطلق منذ عدة سنوات داخل المدرسة التاريخية «ما بعد الكولونيالية»، ووظف على نطاق واسع لدى التيارات الهوياتية النشطة في الساحات الغربية، خصوصاً في أوساط المجموعات المنحدرة من أصول استرقاقية، أو «الشعوب الأصلية» (كمن يسمون بالهنود الحمر في أميركا).
الإشكال المطروح هنا، هو: هل تتعين إعادة بناء السردية الوطنية في البلدان الديمقراطية، التي عرفت الثورات التحررية الإنسانية الكبرى، للاعتراف بالجوانب المظلمة في مسار بناة الدولة ورموز الفكر الوطني، الذين تُقام لهم تماثيل الاحتفاء وتسمى الشوارع والميادين العمومية بأسمائهم، والحال أنهم كانوا مسؤولين عن أفظع الجرائم ضد الإنسانية، من استعباد واستعمار وتمييز عنصري؟
قد يقال إن محاكمة التاريخ خطر لا يسلم منه أحد، فتاريخ كل الأمم والحضارات مليء بالدماء والظلم، وحتى النصوص الكبرى للبشرية، بما فيها نصوص الفلاسفة العقلانيين الكبار مثل أفلاطون وأرسطو، كانت تمجد العبودية وتبررها. وكما يقول الفيلسوف الألماني والتر بنيامين، فإن «كل نصوص الثقافة هي في الوقت نفسه نصوص التوحش».
إلا أن المشكل المطروح، اليوم، يتعلق بظاهرتين حديثتين واكبتا تشكل المدنية المعاصرة، بمرجعيتها التنويرية والقيمية، هما تجارة الرقيق الأسود منذ منذ القرن السادس عشر، والاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين. ومن المعروف أن الظاهرتين تصدران عن نفس الأطروحة التي هي فكرة التمايز العرقي الجوهري بين الأمم والبشر، وهي ليست مجرد فكرة هامشية، بل نلمس صياغتها النظرية لدى كبار الفلاسفة والمفكرين من كانط وفولتير وهيغل، إلى السياسيين الذين حملوا في بلدانهم قيم الحرية والتحديث والمساواة القانونية والاجتماعية.
ومع ذلك، هل من المبرر تدمير التماثيل ومحو الآثار المتبقية من ذاكرة وطنية لها جوانبها المتشابكة المعقدة؟
لقد تحدث الكاتب «جورج أرويل» في روايته الشهيرة «1984» عن ما سماه «تنقلات الماضي»، ويعني هنا إدارة الذاكرة التاريخية كأداة من أدوات التحكم الذي تمارسه السلط الاستبدادية، كما كان النهج المتبع في النظم الشيوعية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، حيث تقنن الدولة «الحقيقة التاريخية» وفق مقتضيات الأيديولوجيا الرسمية. 
لابد من التمييز بين الذاكرة وكتابة التاريخ، على الرغم من الانطباع السائد بأن علم التاريخ هو التسجيل المباشر والمحض لسجل الماضي. وفي كتابه الأخير الذي خصص لهذه الإشكالية، يدعو بول ريكور إلى التمييز بين حقوق الذاكرة التي تدخل في اعتبارات الوفاء الأخلاقي، ومحددات الموضوعية والحقيقة في الكتابة التاريخية التي تدخل في الاعتبارات الإبستمولوجية والنقدية. ووفق هذا التحديد، يتعين التمييز بين ثلاثة مستويات من الذاكرة هي: «الذاكرة الممنوعة» التي تعاني القمع والاضطهاد (ذاكرة الأفراد والجهات المظلومة)، و«الذاكرة المخترقة» (الخاضعة للتلاعب والاستغلال)، و«الذاكرة الملزمة» (التي تطلب الاعتراف والعدالة).
وإذا كانت حقوق الذاكرة لا محيد عنها لإحقاق الحقوق، خصوصاً ما يترتب على أعباء الماضي من مظالم في الحاضر، فإن محو آثار الماضي لا يضمن الحقوق ولا يحقق العدالة، وإنما يمنع موضوعية الكتابة التاريخية، ويفتح الباب لإسقاط صراعات الماضي على الزمن الراهن.