الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

سالم الكاس.. موسيقار الشعر

سالم الكاس.. موسيقار الشعر
4 يوليو 2020 00:24

إبراهيم الملا

«علّ المطر يسقي وطاكم            ينهلّ يوم الناس هيعين
يبطي ولا ييبس ثراكم                    ومن الغِدِر إنروّي سنين»
يرتجي الشاعر سالم بن خميس الظاهري الملقب بـ«سالم الكاس»، (1915 - 1996)، في هذه القصيدة، أوصافاً محدّدة في نوعية وطبيعة المطر الذي يتمنى هطوله على أرض سكنها المحبوب، وشهدت آثار خطواته، وأوقات وأماكن مهجعه، وأن يكون المطر مدراراً لا يتوقف إلا بعد أن يتحول إلى غدران تروي الرمال العطشى لسنين طويلة قادمة.
إن الأوصاف الواردة في أبيات الشاعر الكاس، تنطبق أيضاً على شعره، إذا أردنا خلق مقارنة افتراضية بين سقيا الغيم، وبين سقيا الفكر، بين الماء الذي يحيي الأرض، وبين الشعر الذي يحيي الوجدان، خصوصاً وأن الميراث الشعري الذي تركه لنا سالم الكاس، هو ميراث غني وخصب ووارف وكثير الظلال والثمار وسط الأمكنة والأزمنة التي عاصرها واحتواها واحتوته.
ولولا الجهود الكبيرة والمقدّرة التي بذلها الباحثون الغيورون للحفاظ على هذا الميراث الثقافي المهم وتوثيقه، وفي مقدمتهم الباحث الدكتور راشد المزروعي، لضاع الكثير من كنوز وملامح ومعالم هذا الشعر الغزير والحافل والمتنوع والشاهق الذي أسس له سالم الكاس، ولأصبحت قصائده رهناً لأحوال الزمان والمصائر الآيلة للنسيان، ولكانت الحوادث التي رافقت شعره مستندة فقط على ذاكرة الحفّاظ والرواة الذين سيغيبون بدورهم، ولن يتبقى من رواياتهم الشفهية غير المدوّنة إلا النزر اليسير من هذا المخزون التراثي الهائل، ومن تلك المديات الشعرية الواسعة التي صنعها «الكاس» بموهبة وتمكّن ومداومة وإصرار، وبدأبٍ يُحسد عليه، ورغبة متقّدة، جعلته في مصاف الشعراء الروّاد والكبار في المشهد الشعري والثقافي والاجتماعي بدولة الإمارات.

يستغرب المرء هنا من قلة المعلومات المتعلقة بالشاعر سالم الكاس، وشحّ التناول لسيرته، وضآلة قصائده في الفضاء الإلكتروني، وفي المدوّنات والمراجع الأدبية، إلا في ما ندر، ومن هنا تأتي أهمية الديوان الذي حققه وراجعه الدكتور راشد المزروعي بعنوان «ديوان الكاس» الصادر عن نادي تراث الإمارات عام 2010 والذي شمل معظم قصائده، نظراً لما احتواه الديوان من مقدمة وافية وشروح ولقاءات شخصية مع الرواة الذين عاصروا الكاس، وكذلك مع أقاربه في مدينة العين، وهي لقاءات أجراها المزروعي شخصياً وأضاءت على التجربة الشعرية الاستثنائية للكاس، وما قدمته هذه التجربة بالذات من إشارات غاية في الأهمية إلى أماكن وحواضر وأحداث كانت محل استئناس وودّ وقبول، وما زال لها صدى وحضور في الذاكرة الجمعية وفي المخيلة الشعبية لأهل الإمارات وبمختلف البيئات الساحلية والجبلية والصحراوية التي ترعرعوا فيها وكانت منطلقاً لتأسيس وعي اجتماعي مبكّر بقيم التآزر والتعاضد، وتبادل المنافع، والتنوع الإيجابي في دولة متحدة ومتكاتفة وحانية على أبنائها، رغم كل الظروف الصعبة التي شهدها المكان في العهود القديمة.

دوافع ذاتية
لقب «الكاس» الذي ارتبط باسم شاعرنا الكبير، يعكس دلالات لصيقة بشخصيته المتمتعة برونق خاص، وهو المزدان بأناقة ظاهرية، استقاها من دوافع ذاتية منفتحة على الحياة، وبجمال هذه الحياة وتألقها في ناظريه، إنها إلتماعة «الكأس» أيضاً وإشعاعه المقترن بجاذبية لافتة، وبهالة فردانية أحاطت بشاعرنا، وجعلته متميزاً ومبدعاً أينما حلّ وارتحل.
وكما يذكر لنا الدكتور راشد النعيمي في مقدمة «ديوان الكاس»، فإن طفولة شاعرنا امتزجت بمناظر النخيل والأفلاج العذبة، وقد عمل في بداية حياته في زراعة النخيل، حيث كانت المهنة الوحيدة في المدينة الناشئة حينها، وما أن أصبح يافعاً يستطيع العمل والاعتماد على النفس حتى عمل في نقل «الجريّات» من العين إلى أبوظبي، وبالعكس.
 وأضاف المزروعي أن الشاعر الكاس، كان في بعض الأحيان ينقل على ظهور الجمال التمور، والمانجو، والحطب، والفحم، وغيرها ليبيعها في أبوظبي مع رفاقه من أهل العين.
وما ذكره المزروعي هنا يؤكد لنا أن عناصر الحدس والبصيرة والقوة التي يتمتع بها النتاج الشعري للكاس، هي عناصر لم تأت وليدة الصدفة، بل هي قائمة على خبرة ومراس اكتسبهما شاعرنا من لوازم وصعاب وتحديات الفترة التي عاشها، والمهنة التي مارسها، والمسافات الطويلة التي قطعها، والشخصيات المتعددة التي رافقها واحتكّ بها، فكانت كل هذه العوامل التي اكتملت باشتغاله في البحر بمهنة الغوص واستخراج اللؤلؤ ولمدة خمس سنوات، هي عوامل تصقل الموهبة، وتشحذ المخيلة، وتعزّز المدارك، وتخلق خزيناً وافراً من المعارف التي تثري في النهاية لغة الشاعر، وتمنحها مزيد استبصار وعمق وحكمة واستنارة.

يقول الكاس في قصيدة له بعنوان: «سلام يا وقت غدا وراح»
سلام يا وقت غدا وراح
سلام لك عدّ المصابيح
وأعداد عطرٍ طيّب وفاح
وأعداد ما ثارن مراويح
بك اهتنيت بعيش وأفراح
تستاهل وأيامك مراشيح
مع صاحبي بوعقص ميّاح
وصله ومهواته مرابيح
غالي ولي بالوصل سمّاح
ما يسمع علوم المناصيح
كم ليلة يوم الندى طاح
 بتنا بناره وفي الممازيح

في هذه القصيدة الغزلية السلسة والعذبة ترى قدرة الكاس الواضحة على صياغة الأوزان والقوافي بدقة مرهفة تتناغم مع حواسه الجذلى والمتفاعلة شكلاً وجوهراً مع نشوته الداخلية، واستمتاعه بنظم الشعر وتوليفه، واختياره الألفاظ والمفردات المطرّزة على قياس هذه النشوة وهذا الاستمتاع.
أبدع الكاس أيضاً في فن الطارق أو «الطارج» في اللهجة المحلية، وقد يعود أصل التسمية إلى «طرق الأسماع» والإعلان عن خبايا العاطفة التي أراد الشاعر أو مؤدي القصيدة نقلها من حيّزها الفردي، إلى مشاعها الاجتماعي، وقد نشأ هذا الفن في البادية، وكما يشير التعريف الخاص به، فإنه عبارة عن غناء بدوي، يتضمّن وصفاً للطبيعة والحياة والأحداث والأمور العامة، ملحَّناً بطريقة عذبة تُطرب الآذان، ويُقال إنّ تأدية «الطارج» بطريقة سريعة تشجّع صاحبه أو المحيطين به على العمل اليدوي دون الشعور بالتعب، كما تحفّز الجمل على السير بطريقة أسرع.
وللكاس قصيدة مشهورة في هذا السياق وهي قصيدة: «لولو البحرين ومنطوقة» أداها خلال إحدى مشاركاته بالبرامج التلفزيونية في مجلس الشعراء، أثناء جرّه لحبل «الرشا»، مستخدماً هذا الضرب من الفنون الصوتية ذات الإيقاع الشجي ليعبّر عن لواعج قلبه ومكنونات فؤاده في سياق لحني وغنائي مرتبط بالبيئة وتأثيراتها على هذا التحول الأدائي من مجرد إلقاء الشعر ونظمه، إلى إثرائه وتنويع طبقاته الصوتية ومزجه بحواس مضاعفة تظهر وتترجم الأنين الداخلي بمنطوق غنائي ظاهر يغلب عليه الشجن، وتتناوب عليه الندامات والمواجع، وكذلك الآمال والتطلعات بزوال الهمّ وعودة الأمور إلى طبيعتها السابقة.
يحتفي شعر الكاس بالأمكنة التي بادلته الذكريات الخصبة والمواقف الحميمية والمحطات الملهمة له شخصياً، ولكثير من الشعراء الذين مروا بهذه الأمكنة أو بقوا فيها لفترات طويلة أو قصيرة، ولكنها في النهاية تركت في أذهانهم بصمة مشهدية وعاطفية لا يمكن محوها أو التغاضي عن تأثيرها الحاضر دوما في لاوعيهم، وخصوصاً إذا مروا بها مجدّداً، فيكون وقع هذا التأثير الحسّي والعاطفي أكثر وأشمل، ومن الأماكن التي ذكرها الكاس ووثقها في شعره: منطقة «معيشيج» الواقعة شمال مدينة العين التي يقصدها الأهالي أيام الشتاء، ومنطقة «طريف» في الطريق الواصل بين أبوظبي والمنطقة الغربية، والتي يذكر الباحث الدكتور راشد المزروعي أنها كانت أول مركز للشركات البترولية التي تعمل في البرّ والبحر، وقد أنشئ بها مركز شرطة وأصبحت من أولى المناطق في أبوظبي التي تصل إليها الكهرباء، كما كانت مقرّاً للكثير من المواطنين العاملين الشركات البترولية هناك، ويرد في شعر الكاس أيضاً ذكر «طوي كواكب» ومنطقة «لخريس» التي تقع إلى الشرق من مدينة العين والمشهورة بوجود (حصن بن هلال) الذي كان مقرّا لعائلة الشاعر الكبير سعيد بن هلال الظاهري. وهناك أيضاً منطقة «المعترض» ومنطقة «المويجعي» وهما من المناطق السكنية الشهيرة بمدينة العين، كما ذكر «الدمام» بالسعودية ومناطق أخرى في منطقة الخليج.
تغنّى مطربون كثر بقصائد سالم الكاس، وانتشرت بين الناس حينها، من خلال الأشرطة والأسطوانات، وعلى رأس هؤلاء المطربين ميحد حمد، وعلي بن روغة، الذي ساهم في تكوين ما يشبه التعاون الثلاثي بينه وبين الكاس والشاعر الكبير سالم الجمري، والذي ذكره الكاس في شعره وامتدحه، كما غنى له المطرب جابر جاسم ضمن تسجيلات نادرة، وكان الكاس قد ذكر اسم «بن روغة» في أكثر من قصيدة له، وامتدحه، ومن ذلك القصيدة المهداة للجمري ويقول فيها:
وأنا يا الجمري ترى حالي نِحَلّ
 مثل ما صابك وأنا قبلك عليل
إنته الربحان لي قلت المثل
عند «بن روغه» ولي مثله نجيل
وفي قصيدة أخرى يقول الكاس:
ولو ما صاح «بن روغه» وغنّا
ودقّ العود عند المطربينا
فلا ما صحّت الأيهاد منّا
بقينا في الهوى متعلّلينا

الجيمي الساحرة
ولد سالم الكاس في العام 1915م بمنطقة «الجيمي» في مدينة العين والتي يبدو أن تكوينها البيئي الساحر، وكذلك موقعها الجغرافي المتميز، كان لهما دور ملموس أيضاً في ولادة شعراء كبار ومتميزين بمدينة العين، إنه التعايش الخلّاق -إذا صحّ الوصف- الذي أنتج لنا قامات شعرية عالية، وذات أسلوب تعبيري لامع ووقّاد، انطلق من مشكاة مدينة «العين» ووصل نوره إلى الأقاصي، وطغى سحره على الآفاق.

توثيق المفردات الأجنبية

من الملاحظ في شعر الكاس توثيقه للكثير من المفردات الأجنبية، التي وفدت مع ظهور الشركات الجديدة في المنطقة، وهي مفردات تم تحويرها حسب المنطوق المحلّي، وشاعت بين الناس، وكان لها نصيب في النتاج الشعري النبطي حينها، حيث يذكر الكاس كلمة «مْبِريَل خضر» في إحدى قصائده المعروفة ويقصد بها سيارة الامبريال الأميركية وكان لونها أخضر -حسب ما يذكر الدكتور المزروعي في ديوان الكاس- كما يرد في شعر الكاس أسماء أجنبية أخرى مثل «الجيب» و«الصالون» و«القير» و«الدبل» وكلها مفردات ومصطلحات لها علاقة بالسيارات التي تم استخدامها من قبل الموظفين الأجانب، وقادها بعد ذلك الكثير من المواطنين العاملين بالشركات الجديدة، فصارت أسماؤها وأسماء قطع غيارها، جزءاً من سياق الحياة اليومية، ومن سياق اللهجة المحليّة المرتبطة بها.
وكما يرد في «ديوان الكاس»، فإن قصيدته الغنائية «ونّتي ونّات معتلّ» كان لها وقع كبير وصدى واسع على مستوى الإمارات، ويقول فيها الكاس:

ونّتي ونّات معتلِّ
 ونّ من وقفت منيّاته
بين أرضي والسما غلّي
 مثل طير في سماواته
هوب عارف وين با حلِّ
 من تعب قلبي وضيجاته
فور صدري من وجعةٍ لي
 واحرقن قلبي تنهّاته

إلى أن يقول:

نور خدّه يعزلّ الظلِّ
 ليلة القدري علاماته
لو سلمت من حبّه أشوى لّي
 بستلم عقلي وراحاته
ما يلوفه حدّ بالكلّي
 فوق في «الجوزا» محلّاته
مرتفع وهناك متعلّي
 تتعب الحرّيف مرْقاته

تعد هذه القصيدة واحدة من روائع شعر الكاس، وتتجلّى فيها إمكاناته المتفرّدة في الوصف البديع، والقول الوازن، وتحويل المعاناة والأنين والألم إلى مصائد وفخاخ للمفردات الشعرية المنحوتة على يد فنّان محترف، يعرف أين يضع الكلمة في مكانها المناسب، ويعرف كيف يراعي التفاصيل والأبعاد والزوايا اللغوية التي تجعل من قصيدته جسداً متناغماً مع لوعة الشاعر، كي يوصل صدى معاناته إلى المتلقي، من خلال منظومة شعرية فخمة، وآسرة، تخطف الألباب، وتخلد في الذاكرة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©