قلت في مقالة سابقة إن دول الاتحاد الأوروبي قد تكون هي أكبر الرابحين من زلزال «كورونا»، إذ إنها ستبدأ  الانعتاق قليلاً من ربقة اتحادها. وستبدأ كل دولة على حدة، في البحث عن سبل جديدة للخلاص، تساعدها في البقاء على قيد الحياة خلال المئة عام المقبلة. سيبقى «الاتحاد الأوروبي» موحداً ربما، لكلمة أوروبا السياسية، ومعادلاً موضوعياً لروسيا والصين والولايات المتحدة في ميزان القوة العالمي، إلا أن دوله ستمضي منفردة في بناء «منظومة وجود» جديدة، تضمن لها تجاوز الجسر الذي وجدت نفسها واقفة عليه بعد تخلصها من إرثها الكولونيالي. 
واليوم أقول إن فيروس كورونا بقدر تمكنه من تعزيز مفهوم «الدولة الوطنية»، وإعادته لبعث فكرة «الدولة المستقلة» القادرة على البقاء والازدهار بما يتوافر لها من موارد داخلية، فإنه أيضاً وفي الجهة المقابلة، استطاع أن يخفف من «درجة لون المواطنية» لسكان الكرة الأرضية، ويجعلهم يبتعدون قليلاً من ألوان أعلام بلادهم، ويقتربون أكثر من لون الكرة الأرضية الأزرق، تحت مظلة فكرة واحدة هي «الرغبة في البقاء».
كل مواطني العالم خلال الأشهر الستة الماضية اتّحدوا جميعاً ضد فيروس كورونا، وصاروا يتحدثون اللغة نفسها في وصف أعراض مرض «كوفيد 19»، وطرق الوقاية منه، وطرق علاجه. المواطن الفنزويلي الذي يشعر بأزمة تنفسية جراء المرض، ينقل تجربته، بلغة مشتركة جديدة، للمواطن السعودي الذي يشاركه الحياة ويدعو له بالشفاء. والمواطن النيجيري الذي يعيش في قرية منعزلة لا تصلها الكهرباء في بلاده، يحفّز ويشجع بلغة مشتركة، مواطناً ألمانياً يبحث في معمله عن لقاح يقي البشرية الخضوع لهذا المرض سنوات طويلة.
الفلبيني والتشيلي والنرويجي والجنوب أفريقي والكويتي، كلهم بلا استثناء اجتمعوا تحت «مظلة مواطنية واحدة» للحديث عن هذه الجائحة العالمية التي لم تختبر البشرية من قبل ما يشبهها. صحيح أن بعض الكوارث الإنسانية التي ضربت العالم عبر التاريخ قد تكون أشد وطأة على العنصر البشري من «كوفيد 19» وأكثر تأثيراً منه، إلا أنه لم تتوافر لها هذه الخطوط المفتوحة من الاتصال على مدار الساعة، التي ساهمت في نشر أخبار الجائحة، لتصل إلى كل سكان الكرة الأرضية تقريباً، جاعلة منهم مواطنين يحملون هماً واحداً وجنسية واحدة هي «العالمية».
في زمن الإنفلونزا الإسبانية في عشرينيات القرن الماضي، مات الملايين من البشر من غير أن يعرفوا أن مرضهم الذي يعانونه هو الإنفلونزا الإسبانية. أما اليوم، فحتى أولئك الذين يشعرون بأعراض برد عادية، يخافون أن يكون «فيروس كورونا» قد وجد حيزاً صغيراً ينعم بالتكاثر في أجسادهم!
يسألني صديقي، هل تعتقد أن المظاهرات العالمية التي حدثت في لندن وباريس وطوكيو وبروكسل وبرلين احتجاجاً على مقتل الأميركي «جورج فلويد» وتنديداً بالعنصرية، هي من قبيل المؤامرة ضد أميركا؟ قلت له، إنما هي تعبير عن «المواطنية العالمية» التي تشكلت بعد جائحة «كورونا».
*كاتب سعودي