خرس راشد، رشفة الشظف، ولمضة الشغف، وبلل العابرين من منطقة الغب، إلى معيريض.
اليوم تمر الركاب بلا علامة، ولا شامة، فكل الأوسمة التاريخية تلاشت، وانقضى أمرها، واختبأ وميضها خلف لجلجة الخطوات السريعة.
في هذا المكان الذي كان يطلق عليه بمنطقة «الشريشة» لا أثر، ولا خبر، ولا سبر، ولا حبر، كل الأشياء توارت تحت غشاء سميك أسود حالك، وكل الأشياء أصبحت بلا ذاكرة، حيث العقل تخلص من ثيابه القديمة، ورمى بها في مكبات عملاقة، لا تدع للعين مجالاً لرؤية ما يجب رؤيته.
اليوم وأنت تتأمل المشهد تشعر وكأنك تبحث عن إبرة في كومة قش، تشعر وكأنك تسير على رمال متحركة، تجرفك وتأخذك، إلى مناطق واهية، وبلا لون، وتسلبك قدرتك على التمعن، والتمحص، والتفحص، تجعلك في منطقة الفراغ الذهني، فلا وجه، ولا لسان لذلك «الخرس» الذي كان، وكان يملأ جعبة الزمان، ببريق لم يفقه له معنى إلا الذين شفهم التعب، وأضناهم السغب، أولئك الذين شقوا طريق الأمل من «الغب» مروراً بـ «الأسل» ثم وصولاً إلى معيريض.
رحلة التعب أبلت بلاء في الوجدان، ونحتت في الذاكرة صورة الإنسان الذي غرس شجرة الأحلام على بقعة الملح والعرق، هناك كانت الركاب تحط رحالها عند شفة الخرس، وتدلي بدلائها، لعلها تفوز بجرعة تبلل الريق، وتشفي غليل الظمآن، وتمنح المتشظي برهة من راحة، هناك كانت اليافعات ينجزن مشاريع قصص، وحكايات لم ترو، وهناك كن يتظللن تحت رهاف الجريد، ويأخذن من رمق الحياة، بعد نصب وحدب.
اليوم تبدو تلك الصورة ضرباً من خيال شاعر أو فيلماً فانتازياً، يحمل في طيات سيناريوهاته، وثبة الفكرة المتجلية عن ومضة خيال جم.
اليوم يبدو ذلك الخرس فكرة هزلية، وجدلية هاربة من المعنى، وفلسفة ربما تكون من عهود ما قبل الوعي البشري.
اليوم يبدو الخرس منطقة من فراغ المراحل وحكاية لا تسرد لطفل، ولا لغريب، لأنها فقدت معالمها، وانساحت ملامحها بعد سجور البحر، ومور الأرض، ورجة الوجدان الذي بات مختنقاً في عنق زجاجة سميكة.
اليوم يبدو الخرس في الوعي، مثل الذبابة النافقة في عبق بئر عميقة. اليوم الخرس يبدو مثل، فكرة تائهة في تجاعيد كهل نسي أحلامه في محفظة الأيام.
اليوم، يبدو الخرس نقطة الصفر في نهر متجمد، اليوم يبدو الخرس لحظة هاربة من عقارب ساعة خربة، اليوم يبدو الخرس قصيدة قديمة لشاعر مجهول الهوية.
ولكن ما أن تتحرك البوصلة باتجاه ذلك الخل الوفي، حتى تزيح الذاكرة عن كاهلها اللحاف، وتنهض متلفتة ناحية تلك الفيحاء، وترفع الأسئلة: أين ذاك الذي أسكن في الوجدان بلله؟