عند شفة الماء، وعلى حافة الزمن الجميل، تسمق قهوة كندر، تطالع المكان بدمعة غامضة، وتطل على الوجوه بنظرة منداة بهوى الطيبين.
هنا وعند زاوية رمادية، جلس الرجل الكهل يحصي عدد السنين، وما فرّ من العمر، مختبئاً في معطف الذاكرة.
هنا لمحته وهو يفتل بقايا لحية فضية، تنامت عبر سنوات، وعشّشت، وترعرعت، ورسمت صورة الأشياء عندما تتباهى بفحولة، ربما لم يتبق منها سوى خشاش الأرض، وعراجين تدلّت على خاصرة الحلم.
هنا وجدته يجلس متكوراً، جاثماً على عظام أشبه بجريد خيمة قديمة، وينظر إلى اللاشيء، وربما يفتل حبال قاربه القديم، أو يجدف باتجاه مرحلة ما بعد الفراغ.
هنا انشغل بكأس الشاي، يرشف لمضاته بأناة وتؤدة، والروح مشخوبة بأزاميل مشاهد مرّت، وعبرت، وتوارت، ولكنها لم تتلاش، ولم تفش صمتها لما تجاوزت حدود الضجيج الجميل في الرأس الذي طرقه بمعصم البراءة، وعفوية المشاعر.
اقتربت منه، وتأملت الملامح، وقرأت في الوجه، قصيدة «الكوميديا الإلهية»، لشاعر إيطاليا العظيم دانتي، ثم بسملت، وحمدلت، ثم التفت ناحية أخرى، ووجدت رجالاً لم أذكر أسماءهم، ولكن كانت لهم في المرآة صورة غائمة لم تسفر عن معنى، ولكن هذا الرجل لا يزال يحتفظ في الذاكرة صورة ذلك الشاب الأغر، وهو ينط على ظهر (العبارة)، كعصفور حالم بأيام أزهى من الواقع، كان يجلس على المقعد الخشبي، في مؤخرة العبارة، متصدراً المشهد الصباحي، وعلى محيّاه النحاسي ترقص ابتسامة الشباب، زاخراً باليفوع، وينوع السمات بالغة الحيوية.
هنا الآن ربما لا تغيب عنه صورة ذلك الزمن، ولكنه قد لا يعرف هذا القادم من أقاصي المخيّلة، لأن الأربعين عاماً كانت لها ممحاة بحجم القفزات التي انتزعت من العيون أثمد العفوية، وغطّت الوجوه بملاءات سميكة، حيث لم يتسن لأحد أن يرى ما تركه خلفه، إلا البعض من الناس الذين لم تنقشع عن عيونهم، حبّات عرق الصيف، ولا دخان الفجر البارد، حاولت أن أستجلي ما يحيق به من غشاوة، ولكنه أشاح، ولم يرف له جفن، وربما كان في منطقة أخرى من الذاكرة يهيم، وربما لم يخطر على باله أن هذا الكائن الذي يقف بالقرب منه، هو ذلك الصبي الصغير الذي شاركه مهنة الشقاء اللذيذة.
وبعد أقل من ربع الساعة، أيقنت أن السحر الذي كان في عيني الشاب، اختفى تحت بياض المرحلة، ولا بد لي أن أغادر المكان، فلا جدوى من تقليب الرماد، طالما الجمر أخمدته الريح، ولم يبق من وميض الماضي سوى ذاكرة مثقوبة، تنثال منها الصور والمشاهد والأحداث، كسيل المطر المتسرب من سقف مهترئ.
ولكن كل ما احتفظت به، وأتقنت حبه، هي هذه القهوة العريقة التي لم تغير من سماتها، ولم تتغير، بل بقيت كما هي أيقونة المراحل المتعاقبة، وأسطورة الناس الأوفياء، وعشّاق الحياة.