ثقافة الشركات اليابانية عالقة في سمعة سيئة، لكن وباء فيروس كورونا، ربما منحها دَفعة تحتاجها للخروج من المأزق. فبين الستينيات إلى الثمانينيات، طوّرت البلاد نظاماً للشركات يعمل بشكل جيد، حيث كان المديرون، وليس حملة الأسهم، هم الذين يسيطرون على الشركات، ما سمح بالتخطيط والاستثمار طويلَي المدى، وأبقى على مستويات التشغيل مرتفعة، ودعم المساواة الاقتصادية. وكان العمال يوظَّفون على أساس أنهم سيبقون في شركة واحدة طيلة مسيرتهم المهنية، ما منح مشغِّليهم حافزاً لإنفاق الكثير من الموارد على تدريبهم. وكان الجميع يعمل لساعات طويلة.
لكن منذ التسعينيات، تعرض هذا النظام للضغط، إذ كثيراً ما أثبت المديرون الكبار، المسنّون والنافذون، الذين تدرجوا عبر المناصب والرتب، أنهم غير مستعدين، أو غير قادرين على تغيير نماذج الأعمال أو الهياكل التنظيمية؛ من أجل مواكبة التحولات التكنولوجية وطلب المستهلكين والتجارة. وكانت ساعات العمل الطويلة تصيب العمال بالإنهاك، وتصعِّب عليهم الاعتناء بأطفالهم. كما أنه كثيراً ما كان المديرون المعتادون على التركيز على عدد الساعات التي يجلس فيها العمال إلى مكاتبهم، غير قادرين أو غير مستعدين لبحث كمية العمل التي تنجز في الواقع. وأصبح التوظيف مدى الحياة فخاً، حيث لا يستطيع العمال تغيير المشغِّلين، ما قلّل بالتالي من تدفق المعرفة والخبرة بين الشركات، وكبح الحركية بالنسبة للشباب الطموح.
الحكومة اليابانية واعية بالمشكلة، وتحاول حلها بعدد من الطرق، من قبيل النهي عن ساعات العمل الطويلة، وحث الشركات على الانتقال إلى نماذج أعمال أفضل، وتشجيع المساواة بين الجنسين. غير أنه لئن تسنى تحقيق بعض التقدم بشأن حكامة الشركات وتوظيف النساء، فإن الثقافة المترسخة لساعات العمل الطويلة وغير المنتجة، ونماذج التدبير التي تركّز على تعظيم المدخلات بدلاً من المخرجات، أثبتت أنها عنيدة وعصيّة على التغيير. فمن السهل أن تقول للناس أن يذهبوا لبيوتهم مبكراً، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن المديرين قد تعلموا كيفية تقييم الإنتاجية وفق أسلوب العمل الجديد.
غير أن صدمة فيروس كورونا، ربما تمدّ اليابان بالحل الذي تحتاجه بالضبط. فاليابان لم تتضرر كثيراً من الفيروس، لأسباب ما زالت غير مفهومة تماماً. لكن البلاد طبّقت بعض تدابير التباعد الاجتماعي في أبريل وأوائل مايو الماضيين، بما في ذلك تدابير تشجيع الشركات على السماح للعمال بالعمل من البيت.
والواقع أن شركات كثيرة لم تكن في حاجة للدفع. فشركة «دنتسو»، مثلاً، وهي شركة إعلانات مشهورة، جعلت 5 آلاف من عمالها يعملون عن بُعد، بَعد أن أصيب أحدهم بالفيروس. وعرفت الشركات اليابانية التي تنتج الحواسيب المحمولة وغيرها من أدوات العمل، عن بُعد، ارتفاعاً في الطلب، كما ازدهرت تجارة الشركات التي تبتكر برمجيات العمل عن بُعد.
والعمل من البيت يمكن أن يشجّع ثقافة إنتاجية من خلال عدد من الطرق. فأولاً، يمكنه أن يدفع المديرين إلى قياس العمل، ليس على أساس عدد الساعات التي يجلس فيها موظف على كرسيه، وإنما على أساس عدد المهام التي ينجزها العامل في فترة معينة. وهذا - بدوره - يشجّع المديرين على التفكير بحذر، بشأن أي الأهداف مهمة بالفعل؛ من أجل تحديد المهام وتوزيعها. وثانياً، العمل من البيت يدفع العمال للتفكير بشأن كيفية قضاء وقتهم. ففي البيت، كثيراً ما يكون ثمة خيار القيام بعمل منزلي، أو الاعتناء بالأطفال، وهو ما يرغم العمال على الاقتصاد في الوقت الذي يخصصونه للمهام. وهذه المرونة لها فائدة مضافة، تتمثل في تسهيل مهمة الاعتناء بالأطفال على الآباء، مع القيام في الوقت نفسه بوظائف دوام كامل، وهو ما قد يساعد على زيادة معدل الخصوبة للبلاد، المنخفض بشكل مزمن. وثالثاً، العمل من البيت يسمح بتوفير زمن التنقل بين البيت والعمل.
بيد أن التحول لن يكون سهلاً بالنسبة لليابان. إذ سيتطلب الأمر بعض الوقت، حتى يتعلم العمال والمديرون التكيف مع أسلوب العمل الجديد، المرتكز على المخرجات، ولا غرو أن نسبة مهمة من العمال اليابانيين يقولون إن العمل من البيت حدّ من فعاليتهم. غير أن الفوائد طويلة المدى، من المحتمل أن تفوق التكاليف قصيرة المدى.
لكن الحكومة اليابانية، إلى جانب منظمات مثل «اتحاد الشركة اليابانية»، تستطيع المساعدة في تسهيل التحول، وذلك من خلال نشر المعلومات بشأن البرمجيات والأجهزة التي تسهّل عقد الاجتماعات عبر الفيديو، وأمن البيانات، وغيرها من العناصر الأساسية للعمل عن بعد. كما أن تخصيص خصومات وإعفاءات ضريبية للشركات التي تتيح خيار العمل عن بعد لعمّالها، قد يكون أحد العوامل المشجّعة والمحفّزة. وفضلاً عن ذلك، تستطيع المؤسسات الإعلامية الكبيرة، مثل «إن إتش كي»، بثّ برامج تعليمية ووثائقيات لمساعدة الناس على فهم التحول إلى العمل عن بعد وتبنيه، أو حتى برامج ترفيهية تُظهر العمل عن بُعد باعتباره سلوكاً اجتماعياً عادياً.
إن الثقافة القديمة، وغير الفعالة، للشركات اليابانية تمثّل أحد العراقيل الرئيسية التي تحول دون استعادة البلاد لقدرتها التنافسية ورفع إنتاجيتها، وخلق توازن أكثر ملاءمة بين العمل والحياة. وعليه، فقد يكون العمل عن بعد الصدمة التي تحتاجها ثقافة الشركات اليابانية.

*أستاذ سابق للمالية بجامعة ستوني بروك -نيويورك
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»