بين ديسمبر 2019 ويونيو 2020، وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلف الناتو بـ«الميت سريرياً» مرتين. مما استدعى ردة فعل عنيفة من الرئيس الأميركي في المرة الأولى، إلا أن انشغاله بإطلاق حملته الانتخابية، قد يكون سبب امتناعه عن الرد مجدداً، أو نتيجة نصيحة من وزير خارجيته مايك بومبيو. ما استدعى ذلك الموقف من الرئيس الفرنسي، هو قيام البحرية التركية بإتمام عمليتي استهداف إلكتروني لأحدى قطع البحرية الفرنسية في مياه البحر المتوسط، أثناء اعتراضها سفينة شحن تركية قبل دخولها المياه الليبية، ضمن عملية «إيرني» التي تضطلع بها البحريات الأوروبية، لمنع وصول السلاح إلى ليبيا، بتفويض أممي.
فرنسا بالإضافة إلى ألمانيا وإيطاليا، هي الدول الأكثر إسهاماً في عملية المراقبة، إنفاذاً لقرار مجلس الأمن رقم 2420، والقاضي بتفتيش السفن في أعالي البحار قبالة السواحل الليبية، وذلك للحيلولة دون تدفق السلاح لأي من الأطراف المتنازعة فيها. وقد تقدمت فرنسا بطلب رسمي لحلف «الناتو» لتقديم الدعم من جميع أعضائه لدعم عملية «إيرني»، إلا أن الهدف السياسي من تلك الدعوة، هو إخضاع تركيا وكف يدها عن ليبيا، بعدما اعترفت رسمياً بتواجدها العسكري، دعماً لحكومة «الوفاق» المنقضية ولايتها الشرعية.
التذرع التركي بمحاربة الإرهاب هو مسوغ تدخلها عسكرياً في ليبيا، مما عَمق من تخندق جميع الأطراف عسكرياً، وأيضاً لتخلق تجاذبات حادة بين الولايات المتحدة وروسيا متشابهة والملف السوري. فهل أسهم الانخراط الروسي في اتباع واشنطن سياسية غض الطرف عن تنامي الدور التركي في ليبيا، ولو كان ذلك على حساب أمن واستقرار دول حوض المتوسط. وعملية «إيرني» في تعريفها الأمني، ليست هي الأولى بقيادة أطراف أوروبية أو الاتحاد الأوروبي، فقد سبق للأخير، بقيادة فرنسا، أن أطلق عملية (برخان)، بهدف محاربة الإرهاب فيما يعرف بدول الساحل الأفريقية، والتي تطورت عبر ما بات يُعرف G5 ولتشمل في عضويتها شركاء دوليين من خارج الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو»، وهما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وحتى مع غياب الدور العسكري المباشر للسعودية والإمارات، إلا أن الشراكة في مثله تؤكد على أهمية تظافر الجهود الدولية المشتركة في محاربة الإرهاب، وإعادة الاستقرار في دول عربية وإسلامية.
استدعاءات التدخل الأوروبي بقيادة فرنسا وشركاء دوليين، بهدف محاربة الإرهاب أو إنهاء الصراعات في شمال أفريقيا و«دول الساحل»، هو أولوية يقتضيها الأمن القومي المشترك لدول حوض المتوسط، إلا أن مواقف بعض الشركاء في حلف الأطلسي، وتحديداً تركيا، إيطاليا والولايات المتحدة، لم تعد مفهومه. فهل استدامة الأزمة الليبية لها ما يبررها، أو أن التدخل الروسي في الملف الليبي يعد كافياً لتبرير غياب موقف واضح من شركاء «الناتو»، مما استدعى وصفه بـ«الميت سريرياً» مرتين من قبل الرئيس ماكرون.
الدفاع عن أوروبا واستقرارها كان أحد أهم أسباب نشأة الحلف، وكان لأوروبا دور ريادي في سقوط الاتحاد السوفييتي، وتحملها كلفة إعادة تأهيل ما كان يُعرف بدول أوروبا الشرقية. وكذلك، كان للحلف دور قيادي في إنهاء الصراع المسلح في دول البلقان، منتصف تسعينيات القرن الماضي. وها نحن نشهد، اليوم، ما يؤكد ما ذهب إليه الرئيس الفرنسي في وصف الحلف بـ«الميت»، بسبب تباينات لا تراعي حتى الحد الأدنى من أبجديات ضرورات الاستقرار بشمال أفريقيا، وأولها في ليبيا، لما لذلك الملف من تأثيرات سلبية على عموم دول حوض المتوسط. ربما بات على أوروبا اتخاذ بعض القرارات الصعبة، وأولها إنفاذ ما اتفقت عليه سابقاً، وهو فصل المنظور الأمني الخاص بأوروبا عن المنظور العام لحلف «الناتو».
*كاتب بحريني