عند خاصرة القرية القديمة، وأنت في طريقك إلى السوق القديم، هناك يترقب خطواتك برج من طين الذاكرة، برج معيريض، تراه مثل شجرة ألقت أوراقها، وتخلّصت من معطف الزمن، ونظرت إلى البيوت القديمة التي تطوّقها، وأحصت عدد الذين كانوا هنا ثم رحلوا وعددت الأسماء، والصفات، والنعوت، ثم ضمّت حصيلتها في بقجة الذاكرة، هناك حيث تكمن المعاني، ودلالات المعرفة، هناك حيث تلتئم صور نساء فارعات، مررن ذات حلم، ووقفن شاهدات على تاريخ، وكتبن بعض ما جاشت به اللواعج، وما فاضت به المهج.
تمر بالقرب من هذا البرج، فتستقبلك رائحة أشبه بعطر فساتين الساتان والمخمل، هناك صور من عبق اللهفات والشهقات، يفوح من بين الطين والتحنان، هناك أنت تتلاشى في النسيج، ويصبح البرج مكانك وكيانك وبنيانك وبنانك وبيانك وأشجانك وصولجانك، هناك توقك وشوقك وأفقك وحدقك ونسقك ومرفقك وعشقك ورهقك وبذخك وثراؤك ورخاؤك، وبدايتك التي لم تزل فصولها ترتب أحلامك، وتهذب أيامك، وتمنحك اليقظة في ساعة سهو قد تكون هي اللحظة المباغتة.
عند البرج، يختلط دخان الحرقة بغبار النسيان، وأنت بين بين، تحدب في فراغات المعرفة، وكأنما تبحث عن طفل مر من هنا ذات شغب عفوي، ولكن الصمت يغرقك في صميم الأسئلة، ومراوغة الأزلية التي أخذت من الأشياء ألوان وجوهها، ولم يبق من السحنات سوى بقايا مرايا، شائهة، ولم يبق سوى أضغاث أحلام تتمشى منكسرة، لا جدوى من قلقها، لأن البحر انحسر عن قواربه، ولم تبق سوى زعانف مرتجفة، ونفايات وزبد.
البرج لم يزل يرفع النشيد، ويحدث المارين عن حفلة تنكرية تحدث، ويحدث ما يشبه الزلزلة، وتحدث القلقلة، البرج الآن مثل كهل ضيّع الجاه والولد، ولم يصمد غير عرق الذين شيّدوا جصه، وأبقوا على طينه أثراً لأصابع مسّدت أحلامهم، هنا عند البقعة الرمادية لباحة مفتوحة على التاريخ، تمتزج الصور، وتتشابك المشاهد، وكل الأشياء تحكي قصة، ربما لا يتذوقها صبي لم يفتح عينيه إلا على ذاكرة مثقوبة، وصفحات واهية، وتاريخ يتعكز على عصا واهنة، وبعض حكايات على الألسن، تبدو مثل سحابات صيفية، كسول.
هناك عند البرج، يصبح التاريخ مثل وعاء فارغ من الماء، يصبح التاريخ مثل موقد لم يحتفظ إلا في الرماد، يصبح التاريخ مثل صندوق خشبي قديم احتفظ بمرود الأثمد، وطاسة الكحل، وبعض أساور من فضة التعب، ورسالة قديمة لعاشقة ألقتها في الطريق، لعل يعثر عليها من تحب.