يمكن، اليوم، ملاحظة تحولات كبرى في الوعي والإدراك للذات والعالم، تشكل ثورة في تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأمم والأفراد. والحال أنه تنشأ دائماً عن الأحداث الكبرى، والاكتشافات العلمية والتكنولوجية، متوالية ثقافية واجتماعية تفوقها أهمية، فالتكنولوجيا ليست مجرد تطبيق لنظريات علمية، أو كما يقول الفيلسوف الأميركي وليم جيمس، فإن الاكتشاف الأعظم الذي شهده جيلي، هو أنه بمقدور البشر تغيير حياتهم بتغيير مواقفهم الذهنية.
كانت الثورة الأولى في الوعي والمعرفة مصاحبة للزراعة، فبعد عدة ملايين من السنين على حياة الإنسان في الطبيعة صياداً وجامع ثمار، وجد هذا الإنسان نفسه في مواجهة تحولات مناخية كبرى، جعلت الطبيعة غير قادرة على توفير أسباب الحياة والبقاء في سهولة ويسر، وربما بدأت بذلك المعرفة ووعي الذات. فاللباس، حسب المأثورات الدينية، كان أول ردة فعل لآدم عندما أخذ يغطي جسمه بورق الشجر. الإنسان في سعيه للبقاء ولتحسين حياته، ينشئ أيضاً، بالمعرفة والموارد والتقنيات والحيل الجديدة، إدراكاً ووعياً وأفكاراً تبدو وكأن لا علاقة لها بالمعرفة والعلوم التي اكتسبها. وعلى سبيل المثال، فقد صاحب الثورةَ الصناعية سلوك اجتماعي وثقافي جديد، كان له أثر في تحسين الحياة والصحة وإطالة العمر أكثر من الاكتشافات والاختراعات العلمية والصناعية، مثل النظافة والتغذية الجيدة وتحسين ظروف السكن والإقامة. ورغم أنها تطورات اجتماعية وحياتية تبدو لا علاقة مباشرة لها بالثورة الصناعية، فإنها لم تحدث على هذا النحو الثوري إلا مصاحِبة للثورة الصناعية!
ورغم أن العالم عرف العجلة قبل آلاف السنين، لكن الدراجة لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر. ورغم أن المطبعة ظهرت في عام 1435، فإن الآلة الكاتبة لم تظهر إلا في عام 1870. لم تكن ثمة حاجة لتطور أو اختراع تكنولوجي، كشرط لظهور الدراجة أو الآلة الكاتبة، فهما لا تعملان بالطاقة الكهربائية أو بالمحرك البخاري، لكن ربما كان سبب تأخرهما عدم نضج وتطور القيم الفردية والليبرالية، فهما آلتان فرديتان ليبراليتان تعكسان توق الإنسان إلى الحرية الفردية والانعتاق من السياقات الجماعية
والبيوت، بمعنى أن مكان الإقامة الخاص والمستقل ظاهرة حديثة نسبياً في التاريخ الإنساني. ومازالت كلمة بيت تؤشر إلى المعبد. بمعنى أن البيت لا يكون ولا يقام إلا للإله.. وكانت بيوت الناس أقرب إلى المأوى البسيط. وعندما تشيد بالطين والحجر، كان يجب أن يقدم الإنسان قرباناً ليستأذن الإله في السكن في بيته.. وما زلنا في الأردن (مسلمين ومسيحيين) نقيم الولائم قبل السكن في بيوتنا الجديدة.. ويعود ذلك، رغم أنه تحول احتفالاً اجتماعياً، إلى طقوس ورموز للاعتقاد بأن البيوت لله.
وظل تصميم البيوت حتى العصر الحديث يشبه المعابد، بل هي محاكاة للمعابد أو القلاع.. فضاءات منكفئة يعيش فيها الناس معاً، في الطعام والنوم والعمل المنزلي على نحو جماعي. ويعد نظام الغرف المتعددة في المنزل الواحد ظاهرة حديثة جداً.. وكذلك الحمامات والمرافق المنزلية. فقد كانت أعمال النظافة والغسيل والطهي تجري في فضاءات ومرافق مشتركة بين العائلات أو الحي أو القرية.
لماذا تأخرت البيوت المستقلة، ثم الغرف المستقلة في البيت الواحد؟ لم يكن المانع تكنولوجياً بالتأكيد، بمعنى أن التطور العلمي والتكنولوجي لا يفسر وحده نشوء نظام العمارة الحديث، وكذلك تحسن نظام النظافة والتغذية القائم اليوم في الحياة.. ولكنه التغير الذهني الكبير والجذري الذي صاحب النهضة العلمية.
وربما تكون المسألة المعرفية هي كيف تتشكل الاتجاهات الاجتماعية والأفكار والأيديولوجيات في تفاعلها مع الموارد والتقنيات؟ إلغاء الرق، على سبيل المثال، لم يتكرس إلا بعد ظهور الآلات والماكينات الزراعية.
المسألة التي يؤشر إليها عنوان المقالة ولم تسعف المساحة المخصصة في تغطيتها، هي كيف تكرست الفردية، كفضيلة وكقيمة أساسية في التفاعل مع الثورة الصناعية، وخاصة في مرحلة الحوسبة والتشبيك؟ ثم كيف انعكست هذه القيم في الأفكار والقيم وأسلوب الحياة؟

*كاتب أردني