مشهد عامر بالمتناقضات، وكأنه فصل من كوميديا اللامعقول، ذاك الذي شاهدته بملعب «الأليانز أرينا»، المعقل الخالد لبايرن ميونيخ، في مباراة لعبها «الغول البافاري»، وهزم خلالها مونشنجلادباخ، ليتوج بلقب «البوندسليجا» للمرة الثامنة توالياً، وللمرة الثلاثين في تاريخه.
لم يكن هذا المشهد في حد ذاته، هو ما أثارني، وكيف يثيرني، وقد أحكم البايرن -على عادته- قبضته على الدوري الألماني، وسحق كل إثارة بقيت.. ولم يكن مشهد خلو ملعب «الأليانز أرينا» من الموسيقى الصاخبة التي تحدثها أصوات 75 ألف متفرج، وهم يغنون لعملاقهم، كلما أطل عليهم، ليقدم فاصلاً من عروضه الجميلة، هو ما جذبني إليه، ولكن ما أظهرته الكاميرا في لحظة، وهي تجول في المدرجات الفارغة من سيمفونياتها ولحنها الجميل، لتظهر وهم جلوس في مقاعد متباعدة، كلاً من رومينيجه، أولي هونيس وأوليفير كان، وبين حين وآخر يظهر في هذا الملعب مدعواً «القيصر» بيكنباور، كل هؤلاء نجوم وأساطير مروا من قلعة البايرن، صنعوا سحر وجمال زمن من الأزمنة الرائعة للفريق «البافاري»، خلدوا أسماءهم في الذاكرة، ولكنهم لم يصبحوا مجرد ذكرى من الماضي «التليد»، إنهم وغيرهم كثير ممن يعملون في الكواليس، ماضي وحاضر ومستقبل البايرن، بل إن مصير هذا النادي بأيديهم.
أصبح البايرن عملاقاً اقتصادياً، ولكن من دون أن يضحي بتاريخه ولا بمرجعياته، بل إن هذه المرجعيات هي ما يصنع البيئة الكروية التي تشعر كل لاعب قادم إلى «الأليانز أرينا»، بأنه أصبح جزءاً من منظومة لا معنى فيها للحاضر ولا للمستقبل من دون ماضٍ، وكل من جاء ويأتي إلى البايرن، يشعر بأنه مهما قضى من السنوات في حضرة العملاق، سيرحل ولكنه سيبقى، ولهذا الفريق فلسفة فريدة من نوعها في الاعتراف بالعازفين الحقيقيين، إنه يعتبر نجومه وأساطيره إرثاً، وليس وعاءً للمشاكل.
طبعاً، لم تكن هذه المرة الأولى التي تصيبني فيها الدهشة، مما أرى في «الأليانز أرينا»، فقد قُدر لي وأنا أستضاف من إدارة البافاري، كإعلامي مغربي، عام 2013، والبايرن متأهل بطلاً لـ«القارة العجوز» للحضور إلى المغرب، مشاركاً في مونديال الأندية التي سيحقق لقبها، أن أقف على ما دعم لدي الاعتقاد، بأن البايرن حالة قد لا تكون استثنائية، ولكنه حالة خاصة في بناء فلسفة تجعل من التاريخ هو القائد الفعلي لرحلة الحاضر ولبناء المستقبل، فمن يدير البايرن اليوم وقبل اليوم، أساطيره الذين كتبوا بالعرق، وبسحر الأداء، كل الملاحم التي يفخر بها عشاق النادي.
إنهم لا يتصدقون على أساطيرهم، ولا يعتبرونهم جزءاً من التاريخ، ولا يصففونهم في المتاحف مثل «المومياء»، بل يجعلون منهم ذاكرة، بها يتألق الحاضر ويتبسم المستقبل.