رغم تعدد تعريف اللعنة، فإننا نجد لعنة الجغرافيا في العلاقات الدولية تمثل بعض الأغلال المقيدة لتطور بعض الدول؛ بسبب طبيعة إقليم الدولة والموارد الطبيعية، كما قد تشكل تهديداً أمنياً للدول والشعوب، وربما تخلق تحالفات للبعض الآخر، إلى جانب دول تتخذ سياسات خطيرة لتحقيق مصالحها، متجاوزةً الأعراف الدولية ومصالح غيرها، مقابل من ينجح في تقوية وتطوير قدراته المادية والبشرية، ونسوق - هنا - أمثلة على لعنة الجغرافيا والموارد الطبيعية.
تركيا واليونان تعيشان في صراع محتدم حول ترسيم الحدود البحرية في بحر ايجه والبحر المتوسط، حيث تشكل الجزر اليونانية الكثيرة والمتناثرة، ومنها المتنازع عليها، حدّاً لترسيم الحدود البحرية مع تركيا حسب الأعراف الدولية، التي لم تصادق عليها أنقرة، بل ترى في ذلك ظلماً وخطراً، لحرمانها من الموارد الطبيعية، مع تقليص حدودها البحرية المرتبطة بتحديد مجالها الجوي. ولعنة الجغرافيا بينهما تتعاظم عبر الملف القبرصي، فجزيرة قبرص التي لم تنجح في صياغة مصالحة مع قبرص الشمالية التركية، تمكنت من ترسيم حدودها البحرية مع مصر مبارك، ورسمت حدوداً لها مع إسرائيل ولبنان، غير أنها تنتظر انتهاء الجدل اللبناني الإسرائيلي، بالرعاية الأميركية، في أيهما تبدأ الحدود البحرية أو البرية. الموقف التركي خرج معارضاً ومدافعاً عن مصالحه وعن الشمال القبرصي، مع تهديده لشركات التنقيب والامتدادات، وتحركت أنقرة للتنقيب عن الموارد الطبيعية في البحر الأسود وبحر إيجه والمتوسط، مع مناورات عسكرية. علاوة على ذلك، وثبتْ أنقرة نحو ترسيم حدودها في البحر المتوسط مع حكومة الوفاق الليبية، وأبرمت اتفاقية تعاون أمني معها، لتوسع حدودها المرتبطة بالموارد، وتقطع مشاريع امتدادات الغاز. والذي بدورهِ - أيضاً - يعكس منظوراً جيوسياسياً لتركيا في القارة الأفريقية، على حساب الأمن العربي وأدوار دول أوروبية، مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، فتركيا بمصالحها وموقعها وأمنها ودورها، تجد حيزاً للتحرك في مسارات ناتجة عن تضارب المصالح الأميركية والروسية والأوروبية. قطعاً، الموارد الطبيعية الليبية تمثل عاملاً محورياً للتدخل التركي في ليبيا لدعم فايز السراج، ولعل الكثير منا يتذكر بأن المصالح البراجماتية مع القذافي جعلت حكومة العدالة والتنمية تتردد في دعم الثورة عليه. وليس من المستبعد حدوث اشتباك عسكري بين العضوين في الناتو، تركيا واليونان، أو بين تركيا والقبارصة اليونانيين، ومن الخطورة بمكان امتداد هذا الصدام إلى الأقلية التركية في تراقيا اليونانية، والتي قد تشعل في طريقها صداماً آخر نحو الأقليات التركية والمسلمة في بلغاريا ومقدونيا الشمالية.
من لعنة الجغرافيا في البحار إلى الأنهر، حيث تكمن القوة دائماً مع دولة المنبع، لا يزال مشروع سد النهضة الإثيوبي يثير مسائل أمنية مريبة عن الأمن القومي المصري، مقابل تحقيق التنمية في إثيوبيا ودول أفريقية. وفي مسألة أهمية دولة المنبع، لا بد من ذكر وجود مشاريع تركية على نهري دجلة والفرات، والتي أصبحت تهدد جزءاً كبيراً من أمن الحياة في سوريا والعراق. وقد يؤدي غياب العقلانية إلى لعنات، فعلى سبيل المثال، كادت سوريا والعراق أن تدخلا في حرب عام 1975، عندما بدأت سوريا بملء بحيرة الأسد، وخفضت تدفق نهر الفرات نحو العراق.
بينما الدول تتصارع وأخرى تتعاون حول الموارد الطبيعية، هناك من يتحدث عن لعنة الموارد الطبيعية، وهي نظرية تثير جدالاً كبيراً، ومفادها أن حيازة البلدان لثروات طبيعية ضخمة وخاصة النفط، يقود إلى التخلف الاقتصادي. هذه النظرية يمكن تقويضها بسهولة، عبر دول نفطية غنية تتبع خططاً واستراتيجيات لتحقيق تنمية مستدامة وتنويع اقتصاداتها، مثل مملكة النرويج وكندا والإمارات.
حقيقةً، إن لعنة الجغرافيا والموارد الطبيعية تحمل أبعاداً وصوراً متشعبة ومختلفة ومتضاربة، فهنالك دول حبيسة غير مطلة على بحر ولكنها متطورة مثل سويسرا، ودول فقيرة الموارد الطبيعية وغنية بصناعاتها وقدراتها المعرفية والبشرية، وأخرى غنية الموارد تعاني الفقر واستغلال ونهب ثروتها. وستبقى الجغرافيا عاملاً رئيسيّاً في التنمية والتعاون والصراع والحرب.