إن «قيم الفتوى» ليست من نافلة القول، ولا من تَرَف الكتابة، بل هي أساس راسخ، وقد شكلت المعيار الأساسي والمدخل الرئيس للفتوى، ومن هنا نجد «آداب المفتي والمستفتي والفتوى» باب من التأليف قد شاع وذاع، وعُقدت فيه وفصول ومباحث لهذه الصناعات في مختلف العلوم، لأن المفتي الذي يمارس الإفتاء دون قيم، إنما يُحدِث في الأرض، ويهلك الحرث والنسل، ويزاول الإجرام، كما قال ربيعة شيخ الإمام مالك: «بعض من يفتي أحق بالسجن من السّرّاق»، فليس كل فقيه مفتياً، فنظر المفتي أدق وأخص من الفقيه، لأن نظر الثاني موجَّه للكليات العامة، أما نظر الأول فهو موجه للجزئيات والوقائع المحددة، فالفتوى هي تنزيل الكلي على الجزئي دون إلزام.
ولهذا تأتي قيمة «الواقعية» في هذا العصر كأهم قيمة للفتوى، فالفتوى ليست حفظاً للمسائل، وعكوفاً على أقوال وفروع صيغت لمجتمعات ووقائع ماضية، وتجريد وتنظير، بل هي ارتباط بالواقع وأثره عليها، لأن الفتوى أحد مكوّنات الوعي المجتمعي، فلا بد من تقديم الحلول للناس، وتقدير مصالحهم، ومواكبة التطورات، واستيعاب كل الحيثيات، وتفاعل مع الأحداث، واجتناب للأزمات، وسلام للمجتمعات، كما قال الفقيه المالكي ابن أبي زيد حين عوتب في مخالفة مذهب الإمام مالك فقال: (لو أدرك مالك زماننا لاتخذ أسداً ضاريّاً). وأحسن مَنْ صَوَّر هذه المسألة هو الفقيه الفيلسوف ابن رشد في كتابه «بداية المجتهد» حين قال: (... إنَّ الأفقه هُوَ الذي حَفِظَ مَسَائِلَ أَكْثَرَ، وهؤلاء عَرَضَ لَهُمْ شَبِيهُ مَا يَعْرِضُ لمن ظَنَّ أَنَّ الْخَفَّافَ هُوَ الَّذِي عِنْدَهُ خِفَافٌ كَثِيرَةٌ، لَا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى عَمَلِهَا، وَهُوَ بين أَن الَّذِي عِنْدَهُ خِفَافٌ كَثِيرَةٌ سَيَأْتِيهِ إِنْسَانٌ بِقَدَمٍ لَا يَجِدُ فِي خِفَافِهِ مَا يَصْلُحُ لِقَدَمِهِ، فَيَلْجَأُ إِلَى صَانِعِ الْخِفَافِ ضَرُورَةً، وَهُوَ الَّذِي يَصْنَعُ لِكُلِّ قَدَمٍ خُفًّا يُوَافِقُهُ، فَهَذَا هُوَ مِثَالُ أَكْثَرِ المتفقهة فِي هَذَا الْوَقْتِ). فالمفتــي هــــو الآخذ بزمام القيم التي يعيشها عصره بوسائله، ويصنع لمجتمعه وواقعه فقها يوائمه ويلائمه، ويستجيب لمصالحه، لأن الجمود على المنقولات أبداً دون نظر في الواقع ومستجداته ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين كما قرر القرافي.
ولا تكون الفتوى جامعة للقيم إذا لم ترتو بمنهج التيسير والتسهيل، المتولد من قيمة الاعتدال، وقد عبر العلماء المعتنون بآداب الفتوى عن هذه القيمة بقولهم: (أن يكون مُشْفِقاً على أهل ملته) وشفقتُه على أهل ملته، شفقةٌ شاملة لأطياف المجتمع والعوالم كلها، لما في ذلك من الأثر والتأثر والتعايش والتساكن مع الناس جميعاً، فالإسلام رحمة للعالمين، والتيسير سمته العامة التي هي المصدر للفتوى، فتعاليم ديننا في جميع أبوابها تَمَكَّن منها التيسير والسماحة تَمَكُّناً لا يمكن فصله عنها، ومادام المفتي مستوفياً للضوابط والشروط، فسيوفَّق لهذه القيمة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى مخاطباً للنبي صلى الله عليه وسلم: (ونيسرك لليسرى) فالفتاوى التي تَسُدُّ كل الأبواب، وتُرهق الناس لاحظ لها من قيمة السماحة والاعتدال.
وليست «قيم المفتي» بأولى من «قيم المستفتي» فهما متلازمان، فينبغي للمستفتين أن يثقوا في الجهات الرسمية المسؤولة عن هذه الوظيفة، ويلجؤوا إليها في ما يهمهم من أمور دينهم، ولا يبغوا عنها بديلاً، ويوقنوا أنهم لا يفتونهم إلا بالأصلح لهم ولأديانهم ولجميع شؤونهم وأوطانهم، فالقيمة الجامعة المعيارية لكل تلك القيم هي «الخير»، فالفتوى تحقق النفع والخير للجميع، وتُبْعِد عنهم الشر والضير، فيكون المفتي والمستفتي خيراً لأهله ومجتمعه وأسرته ووطنه، وهذا ما ينبه عليه الحديث النبوي الصحيح: (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقّاً عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ).
*كاتب إماراتي