عندما تريد الأمة أن تكون أمة كبيرة ذات حضارة عظيمة تجعلها في مستوى الإمبراطورية تسيطر على مساحة واسعة من الأرض والناس وتكون في المقدمة لا بد أن تحقق الآتي: مبدأ التسامح، والتعددية والإقرار بحق اختلاف الديانات والثقافات بين الناس، وأن تتفوق في قوتها على الآخرين، وأن تمتلك قوة اقتصادية واجتماعية وعسكرية تفوق الآخرين، وأن تفرض هيمنتها على مساحة واسعة من الكرة الأرضية، وأن تجتذب الكثير من المواهب والكفاءات ذات المهارة العالية وأن تدفعها للنمو والنجاح والتوسع، سواء كان ذلك على مستوى صناعي أو تكنولوجي بغض النظر عن أعراقهم ودنياتهم وخلفياتهم وأن تكون قادرة على صهرهم في بوتقة واحدة.. هذا ما أشارت إليه الدكتورة «إيمي شوا»، الأستاذة بكلية الحقوق في جامعة «يل» الأميركية، ضمن كتابها «عصر الإمبراطوريات - كيف تتربع القوى المطلقة على عرش العالم وأسباب سقوطها».
إنه في أواخر الستينيات من القرن العشرين أزالت الإصلاحات القانونية الكثير من الحواجز التي تقف في وجه تقدم الأمم وتحول الصراع بين النقاء العنصري من جهة وبين التعددية العرقية إلى حالة من «التسامح» والتعددية العرقية وحب اختلاف الثقافات والألوان والأديان.
وتعطي المؤلف أمثلة عديدة لإمبراطوريات في العصر القديم، ظهرت وبرزت ثم سقطت، ومنها الإمبراطورية «الأخمينية». وعن هذه الأخيرة، تقول «شوا»: إنها كانت القوة المطلقة الأولى في تاريخ العالم، حيث سيطرت على مساحة واسعة يدخل في حكمها مملكة أشور وبابل ومصر، وكانت تهيمن على 42 مليون من البشر، أي حوالي ثلث العالم آنذاك. وكانت تتغاضى عن الديانات والثقافات والأعراق المتفاوتة، وجعلت جميع الرجال في المناطق المستعمرة يحتفظون بمناصبهم الرسمية السابقة، وجوهر تميز هذه الإمبراطورية أنها كانت تتعامل بـ «التسامح الديني». وأغلب المؤرخين في العصر الحديث يتفقون على أن استيعاب هذه الإمبراطورية للمواهب والكفاءات كان له أثر في دعم قوتها وبناء أروع العواصم. وبسبب «التسامح»، تم تجميع أعظم «آلة حرب» في تاريخ البشر، حيث أصبح الجيش قوة ضخمة مدهشة متعددة الجنسيات.
وتعزي «إيمي» أسباب سقوط الإمبراطورية «الأخمينية» إلى دخولها في حالة من التعصب - والقسوة والاضطهاد والوحشية ورجوعها عن «التسامح»، مما أدى إلى قيام انتفاضة عنيفة من قبل شعوب تهيمن عليها الإمبراطورية «الرومانية»، وهذه الأخيرة كانت أصغر بقليل من مساحة الإمبراطورية «الأخمينية»، إلا أنها فاقتها في كافة المجالات كانت بالإضافة إلى أنها قوة عسكرية تمتلك فكرة بلغ عدد سكانها ما يقارب الستين مليوناً وحسب المؤرخين كان «التسامح» هو الأساس الذي بنيت عليه الإمبراطورية «الرومانية» نهضتها، وكان لها نقود معدنية واحدة.
ومعظم المؤرخين يجمعون على أن روما تمثل نقطة مهمة في الحضارة الرومانية. وخلال فترة امتداد هذه الإمبراطورية ساد السلام وتبادلت أقاليمها المصالح التجارية، وأبقت على تماسكها وتعايش الناس فيها من مختلف الألوان والخلفيات والديانات والثقافات. الإمبراطورية الرومانية جذبت كل المواهب والمعارف والكفاءات والمهارات وشجعت مواردها البشرية على خدمة الحياة الرومانية في كل المجالات، كما فضلت استخدام مزيج من الدبلوماسية والتهديد واستخدام قوة الردع لحماية حدودها، وكان اقتصادها عبارة عن تجارة حرة وأسواق مفتوحة ومنطقة حرة كبيرة لم تكن عنصرية لم تفرق بين الأسود والأبيض، وتعتبر أكثر رقياً من الحضارات الأخرى، ويجمع المؤرخون على أن سبب سقوط «روما»، هي: التمدد الإمبراطوري والأزمة الاقتصادية والغزوات البربرية والضعف العسكري.