قرار استقالة «جيمس بينيت»، محرر الرأي في جريدة «نيويورك تايمز»، جاء على خلفية نشر مقال للسيناتور «الجمهوري» توم كوتون، والذي امتعض منه الكثير من قراء الجريدة (حسب زعم الجريدة، كما أوضحت في بيان لاحق). المثير في الأمر أن «بينيت» حُمل المسؤولية لأنه لم يطلع على الرسالة قبل النشر، وثانياً، لأن القسم هو من اختار العنوان، وأهمل أمر تهذيب بعض العبارات الواردة في الرسالة (المقال) قبل نشرها.
«بينيت»، ليس إلا آخر ضحايا الدولة العميقة، وسطوة المال السياسي المسيطر على عموم الإعلام الأميركي، وليس فقط ما اُصطلح على اعتباره ليبرالياً من قبل اليمين، إلا أن بلوغ هذا المستوى من الاستقطاب، يعد أمراً غير مسبوق في التاريخ الاجتماعي الأميركي، بما في ذلك الحقبة المكارثية. فقد كان للإعلام دور قيادي، كسلطة رابعة، بل قاد تدخلها - ضمن ذلك المفهوم - في الإطاحة بالمكارثية. العولمة التي اعتُمدت مع مطلع الألفية الجديدة، كان لها اشتقاقاتها الاجتماعية والسياسية، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتقلص الدور السياسي لأوروبا، وتسيد الولايات المتحدة مرحلة القطبية الآحادية. العنجهية مثلت السمة الأبرز للشخصية الأميركية، وبأنماط اقتصادية واجتماعية، كان لها ارتداداتها السلبية على الولايات المتحدة، والإعلام كان طرفاً سياسياً فيها، بعد تنكره لتاريخه الاجتماعي.
جريمة مقتل جورج فلويد البشعة، حوّلها الإعلام الليبرالي إلى محاكمة لرئاسة دونالد ترامب أمام الرأي العام، بل حوّلها منصة هُمش فيها حتى القتيل. والنقاش - هنا- لا يتناول موقفاً أخلاقياً من جريمة قتل، بل الانزلاق السياسي للإعلام الأميركي، دون مبالاةٍ بمسؤوليته المهنية، نتيجة حجم تأثيره وطنياً ودولياً. وها هي أعمال الفوضى تطال أوروبا بعد كل ما عانته المدن الأميركية، جراء التصاعد في حالة الانفلات الأمني.
«إسقاط نظام ترامب» هو الهدف السياسي للإعلام الليبرالي، امتثالاً لسادة الدولة العميقة والمال السياسي بكل مصادره، من قطاعات اقتصادية وعائلات سياسية، بالإضافة لمراكز الضغط السياسي من داخل الولايات المتحدة وخارجها. والأمثلة كثيرة على مدى الإضرار بالإعلام، عندما يتحول من نقل الخبر إلى صناعة الرواية «المُسيسة»، كما فعل جيف بيزوس مالك جريدة «واشنطن بوست»، باختلاق حادثة اختراق هاتفه من قبل المملكة العربية السعودية. هو لم يهتم بحجم ما يمكن أن يلحق بالجريدة من أضرار، أو بمصداقيتها وتاريخها، فالجريدة محض أداةٍ سياسية توظف في خدمة شركائه في مشروعهم السياسي.
رسالة السيناتور «كوتون»، لا يمكن اعتبارها خارج إطار خدمة موقفه السياسي، ولكن كل ما تناوله هو المقتضيات الأمنية اللازمة للتعاطي مع حالات الانفلات الأمني، لا الاحتجاجات السلمية، إلا أن أجندة الإعلام الليبرالي تنحصر في بند أوحد، هو «إسقاط النظام». وقرار الإقالة، وإن أتى في شكل استقالة، يؤكد قدسية البقرة الليبرالية في أعراف الليبرالية الجديدة، والمتماهية في عنجهيتها باليمين الجديد، إلا أنها أكثر فجوراً في استعداء الخصوم.
الولايات المتحدة عبر تاريخها الاجتماعي، كانت دائماً قادرة على انتشال نفسها من كل كبواتها، لعمق ثقافتها المؤسسية، إلا أن هذا المستوى من الاستقطاب يُعد تحدياً غير مسبوق، بكل مقاييس تاريخها الاجتماعي الحديث، بعد حرب فيتنام. وربما أن حقبة القطبية الآحادية أسهمت في بروز تلك الثقافة غير المتسامحة وبأدوات اجتماعية، سمتها اللامبالاة.
*كاتب بحريني