حين توعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بضم أجزاء من الضفة الغربية، أصاب الذهول النقاد الليبراليين في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء أوروبا، وسارعوا بتوجيه الاتهام لنتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، لأن «صفقة القرن» سمحت لإسرائيل بادعاء الحق في 30% على الأقل من الضفة الغربية، لكن المنتقدين مخطئون لأن جذور هذا التوسع الحالي للسيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، تمتد إلى أبعد من الحكومة الإسرائيلية الحالية أو إدارة ترامب.
ففي المقام الأول، يتعين إلقاء اللوم على عاتق كل الحكومات الإسرائيلية، منذ بداية الاحتلال على مدار نصف القرن الماضي، فقد انتهكت إسرائيل مراراً القانون الدولي، باقامة مستوطنات في الأراضي المحتلة، وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي، تبنى حزب «ليكود» خطة للإسراع ببناء وتوسيع المستوطنات داخل الضفة الغربية، والخطة دعت أيضاً إلى بناء طرق للربط بين هذه المستوطنات وإسرائيل ما قبل 1967، من أجل عزل الضفة الغربية، مما يجعل من المستحيل إقامة منطقة فلسطينية مجاورة.
وبعد التوقيع على اتفاقات أوسلو، تزايد ايقاع توسع المستوطنات في الضفة الغربية، مع تضاعف أعداد المستوطنين في السنوات الثمانية الأولى، وفي العقدين الماضيين، تضاعف عدد المستوطنين مرة أخرى، وسواء وسعت إسرائيل رسمياً سيادتها أم لا، فقد ضمت إسرائيل فعلياً جانباً كبيراً من الضفة الغربية، وتمارس سيطرة شبه كاملة على الأراضي المحتلة، ونقلت إسرائيل أكثر من 650 ألف من مواطنيها خارج حدودها المعترف بها دولياً، وأقامت طرقاً لربط هؤلاء المستوطنين بالدولة، وأقامت جداراً بطول 290 ميلاً -وجانب كبير منه مقام على أراضٍ فلسطينية- كما أقامت أكثر من 100 نقطة تفتيش تمنع الفلسطينيين من حرية الحركة، وفي غور الأردن، أحرقت آلاف الأفدنة الزراعية الفلسطينية وحاصرت غيرها، وتسبب هذا في تقسيم الضفة الغربية، وما تطلق عليه إسرائيل «القدس الشرقية» إلى عدد أكبر من الأجزاء.
وهناك أيضاً أخطاء الإدارات الأميركية المتعاقبة التي احتجت أو شكت، لكنها أذعنت في نهاية المطاف لهذا الغزو الاستعماري الإسرائيلي، وبدءاً بإدارة بوش، وامتداداً إلى إدارة أوباما، قوبل إقامة مستوطنات جديدة بالاستياء، بينما نُظر للمستوطنات القائمة باعتبارها «واقعاً»، وفهم الإسرائيليون الدرس وهو أن التوسع الاستيطاني ربما يقابل باستياء، لكن بمجرد إقامة المستوطنات يجري القبول بها، وامتنعت الولايات المتحدة أو تقاعست عن التحرك بشكل حاسم لكبح التوسع الاستيطاني، وهذا أعطى إسرائيل إحساساً بالحصانة. ولذا، فالنهج الذي تبنته إدارة ترامب في «صفقة القرن»، هو الامتداد المنطقي لخمسين عاماً من الإذعان الأميركي.
وحتى الأصوات الأميركية الليبرالية، كان نقدها مفرغاً من المعنى وبلا قوة، بسبب رفضها الإعلان عن قطع المساعدات، أو أي عقوبات أخرى قد تجعل أي حكومة إسرائيلية تعيد النظر، ودعواتهم المخلصة لحماية «حل الدولتين»، هو على أفضل الأحوال بلا معنى وأقرب إلى «التبرؤ من الدولتين»، كما لو أن هذا الاستعراض للدعم، يحللهم من فشلهم في المطالبة بإجراءات تجعل من إقامة دولة فلسطينية واقعاً.
لكن يتعين على أوروبا أن تتحمل أيضاً نصيباً من اللوم، لقد مر 100 عام على «مؤتمر سان ريمو» سيئ السمعة الذي لا يختلف عن «صفقة القرن»، التي أعلنها ترامب في ادعاء الحق لنفسه بتقسيم المنطقة، ودعم إعلان بلفور دون أي تشاور مع سكان البلاد الأصليين أو اكتراث بحقوقهم، وفي هذه الفترة تغيرت أوروبا لكن قليلاً فحسب، وخلال هذا الشهر، مرت 40 عاماً على إصدار الدول الأوروبية التسع الكبيرة إعلان البندقية، الذي دعوا فيه إلى إنهاء الاحتلال اتساقاً مع قرارات مجلس الأمن الدولي 224 و338، وحق الفلسطينيين في أن تمثلهم منظمة التحرير الفلسطينية، وحقهم في تقرير المصير.
لكن في العقود الأربعة التي انقضت، أصدرت أوروبا عدداً من الإعلانات وأدانت السياسات الإسرائيلية في عدد من المناسبات، لكنها تخلت عن دورها في عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين إلى الولايات المتحدة، والإعلانات الأوروبية لم تتضمن عقوبات ولذا جري تجاهلها، وإذا كان لنا أن نتعلم أي دروس من فشل الماضي، في الوقت الذي تهدد فيه إسرائيل، بضم أجزاء رسمياً من الضفة الغربية، فعلينا إتباع التالي:
أولاً: يتعين إخضاع إسرائيل للمحاسبة، ليس فقط إذا تحركت نحو الضم، بل محاسبتها عن سلوكها الذي يتسم بأنه بلا ضابط قانوني على مدار نصف قرن، ويجب عدم الاكتفاء بالاعتراف بدولة فلسطين، لأن هذه الدولة لن تسيطر على أراضيها واقتصادها ومواردها، بالتالي سيكون مثل هذه الاعتراف بلا محتوى، والمحاسبة تستلزم فرض عقوبات، لأنه ما لم توجد عواقب اقتصادية وسياسية، سيتواصل سوء السلوك.
ومن المهم للغاية أيضاً، أن تصبح حقوق الإنسان الفلسطيني موضع اهتمام المجتمع الدولي، فلا يمكن أن يظل الشعب الفلسطيني بلا دفاع أمام الاحتلال الإسرائيلي وعنف المستوطنين. وإذا ظل المجتمع الدولي يتظاهر بالعجز، فسيظل الفلسطينيون يعانون من سرقة الأراضي، وإزالة المنازل والتعرض للعقاب الجماعي والاعتقالات بالجملة، وإساءة معاملة الأطفال والإهانات اليومية في نقاط التفتيش وصور أخرى من القمع، وفضح هذه الجرائم الإسرائيلية هي الخطوة الأولى، والمحاسبة والعقوبات هما العلاج.
الأوروبيون  الذين أصدروا  إعلان البندقية، يجب أن يعترفوا بأن عدم قدرة الولايات المتحدة على التصرف كوسيط أمين، هو ما قادهم لتأكيد دورهم الخاص ومسؤوليتهم، ويجب عليهم الاضطلاع بدور أكبر، مقابل الدور الذي لعبته أميركا، وهذا يتطلب بالضرورة عقوبات اقتصادية وسياسية، لأن مجرد تصريحات الإدانة سيجري تجاهلها.

*رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن