رأيته لأول مرة في عام 1976 في اجتماع بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، عندما كانت في الدور الخامس في إحدى العمارات الشاهقة بـ«الدقي»، لوضع خطة لإحياء التراث العربي الإسلامي. وعرضت تصنيف القدماء للعلوم على ثلاثة أنواع: العلوم النقلية العقلية الأربعة (أصول الدين وأصول الفقه والحكمة والتصوف)، والعلوم العقلية الخالصة (الرياضيات والهندسة والجبر والفلك والموسيقا والطب والصيدلة والكيمياء والمعادن والنبات والحيوان)، والعلوم النقلية الخالصة الخمسة (القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه). وسرعان ما وافقني  الدكتور محمود حمدي  زقزوق بعد أن اختلف الأعضاء مدة حول أفضل تقسيم. وقد رأيت فيه الحكمة، والاتزان، والموضوعية، والتجرد، وقلة الحديث، والصبر، والعقلانية، وحسن المعاملة، وحسن الاستماع للآخرين. كان ذا علم راسخ، وعقل راجح، ونفَس طويل، وقصد خالص، وصدر رحب. ثم توقف المشروع بعد زيارة السادات للقدس في نوفمبر 1977 واتفاقية كامب ديفيد في العام التالي، ومن بعدهما معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، ونقل الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، وما تلا ذلك من سنوات القطيعة بين مصر والعالم العربي.
وانقطعت الاتصالات بيننا، حتى ربطتنا الجمعية الفلسفية المصرية من جديد، وانضمامه إليها عضواً وهو عميد لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، مع كثير من أساتذة الكلية. وقد رأيت كيف كان يدير الكلية بروح الأب والأستاذ والزميل، دون تعالٍ ولا ترفع ولا زهو. كان مكتبه مفتوحاً دون السكرتارية التي كانت على الصف الآخر، حيث يجلس الجميع في مكتبه كأنهم في رواق من أروقة الأزهر العريقة. كان بملابس مدنية غربية، لكن روحه كانت أزهرية إسلامية شرقية. لم يكن يرفض لنا طلباً، وكان دائماً في خدمة الجميع، وتحت تصرف الكل، ويفعل ما فيه الصالح العام. كان يدير أمة مصغرة، أمة الكلية والجامعة. كان قادراً عل التعامل مع جميع المجموعات والشلل من أساتذة الفلسفة في مصر. كان أباً للجميع، قادراً على الحوار مع أبنائه، مهما تشعبت أهواؤهم وتضاربت مصالحهم، وتباعدوا في الزمان والمكان. كان كبير العائلة طبقاً للصورة المصرية، وكان ذا جسد معتدل، وقوام رشيق، ولباس أنيق. جلسته وراء مكتب العمادة تجعله يبدو زعيماً أو قائداً أو إماماً، أو بتعبير الفلاسفة «الشيخ الرئيس».
وقد انتُخب محمود زقزوق رئيساً للجمعية الفلسفية المصرية عام 1996، وكان على ما أذكر رابع رئيس لها وأطوله مدة بعد إبراهيم بيومي مدكور، وأبو الوفا التفتازاني، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة. وفي رئاسته تحولت الجمعية من ضيف ثقيل على قسم الفلسفة بآداب القاهرة إلى مؤسسة مستقلة، لها مقرها وميزانيتها وندواتها الشهرية ومؤتمرها السنوي، وإصداراتها، وسمعتها في الداخل والخارج. لقد أصبحت بيت الفلاسفة المصريين والعرب. وكان بشخصه وحكمته وعمله وسيرته، مانعاً للصواعق في زمن يُكفَّر فيه الفلاسفة والمفكرون. لم يبخل عليها من ماله الخاص، أو من جهده ونفوذه. كان يرعاها ويشرف عليها، ويفتتح ندوتها السنوية.. فأعطاها ثقلاً علمياً واجتماعياً وإدارياً، وأصبح عصبها ورأسها؛ تلجأ إليه الجمعية كلما ضاقت بها السبل، وانسدت أمامها الطرق.
وقد غادر زقزوق دنيانا في صمت هذا العام، وإن أكبر تحية لهذا الصديق هي عرض أعماله وقراءة فكره من منظور آخر، من أجل إثراء الفكر الفلسفي عن طريق الحوار. ومن دون ذلك يتحول الاحتفاء إلى مدح وإطراء.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة





‏‭