لو أراد البريطانيون سببا للاحتجاج على العنصرية المؤسسية أو وحشية الشرطة، ما كانوا سيحتاجون للنظر إلى ما يحدث على بعد 4 آلاف ميل عنهم، ذلك أنه كانت هناك الكثير من الأمثلة المحلية على مدى السنوات. وعبارة «لا أستطيع أن أتنفس» كانت ستجد لها صدى بين الكثير من الأسر السوداء هنا.
لهذا شكّل مقتل جورج فلويد دعوة للتحرك في المملكة المتحدة أيضاً، حيث شارك نحو 173 ألفا و500 شخص في أكثر من 200 مظاهرة خلال الأيام الأخيرة. مظاهرات أنتجت إحداها صورة أيقونية للغضب العالمي تتمثل في إسقاط تمثال «إدوارد كولستون» في مدينة بريستول، وهو تاجر رقيق عاش في القرن السابع عشر، حيث سحب المحتجون التمثال المصنوع من البرونز عبر الشوارع ثم ألقوا به في ميناء بريستول.
كان كولستون مشرّعا، والأهم من ذلك، كان مسؤولا في «الشركة الأفريقية الملكية»، أشرف على نقل أكثر من 80 ألف شخص أفريقي إلى أميركا في إطار تجارة رقيق مربحة. وقد استفاد كثيراً من بيع الرجال والنساء والأطفال، الذين مات الكثير منهم أثناء الرحلة. واحتفي به باعتباره محسنا أنفق ثروته في أعمال الخير.
ولكن بغض النظر عن إحسانه، فإن التمثال كان مقززاً، وخاصة أن اللوحة التعريفية التي في قاعدته لا تتضمن أي إشارة إلى مصدر ثروة «كولستون». وقد يكون هناك جدل طويل حول ما إن كان ينبغي إزالة التمثال ووضعه في متحف، أو تدميره، أو إعادة تسميته. غير أن المرء قد يتساءل بشأن طريقة إزالته، ولكن ليس بشأن إزالتها.
الانقسام العرقي في أميركا – أو ما يصفه رئيس جامعة جورج تاون جون ديجيوا بـ«خط التصدع الأصلي في جمهوريتنا» –مترسخ في حياتها السياسية وثقافتها وإعلامها وحوارها وواقع الحياة اليومية للكثيرين. ولئن كانت الولايات المتحدة تمثّل حالة متطرفة، فإنها ليست حالة وحيدة.
فملامح الحرمان والتمييز والهشاشة مشابهة في بريطانيا، رغم أن العرق لا يناقَش على نطاق واسع مثلما يحدث في الولايات المتحدة، ومن الصعب أحيانا فصله وتمييزه عن التحيزات الطبقية العميقة التي ما زالت موجودة في المجتمع البريطاني. وداخل نظام العدالة الجنائية مثلا، ستبدو الأنساق الموجودة مألوفة جدا للأميركيين.
ذلك أن احتمال توقيف وتفتيش الأشخاص السود والآسيويين والمنتمين للأقليات العرقية في إنجلترا وويلز أكبر بأربع مرات مقارنة مع الأشخاص البيض، وأكبر بعشر مرات تقريبا بالنسبة للأشخاص السود فقط. كما أن احتمال توقيفهم أكبر بأكثر من ثلاث مرات مقارنة مع الأشخاص البيض، واحتمال استخدام القوة ضدهم أكبر بأكثر من خمس مرات. والعقوبات السجنية أطول أيضا.
والواقع أن الوضع السابق كان أسوأ بكثير. فعلى مدى عقود، لم تكن قوانين مكافحة التمييز في بريطانيا تطبّق على عمل الشرطة. وكانت الفكرة من وراء ذلك هو أن الأقليات العرقية تطرح خطرا على القانون والنظام. غير أن جريمة قتل المراهق الأسود ستيفان لورانس الصادمة في 1993، في هجوم عنصري من قبل عصابة تتألف من خمسة شبان بيض أو ستة، فجّرت سلسلة من الأحداث التي أدت في النهاية إلى وعي عام أكبر بالمشكلة وبعض الإصلاحات. كما أفضى تحقيق متسرع للشرطة إلى حملة من أجل العدالة، انتهت إلى تحقيق عام قاده «ويليام ماكفرسون». وبحلول موعد نشر التقرير في 1999، لم يتفاجأ أحد بخلاصته التي وجدت أن العنصرية المؤسسية موجودة داخل قوة الشرطة.
والواقع أن بعض الأشياء تغيرت إلى الأحسن نتيجة ذلك، غير أن المشكلة ما زالت موجودة. إذ قلما يحاكَم ضباط الشرطة بسبب موت أشخاص عندما يكونون في قبضة الشرطة، كما أن نسبة السود ضمن جهاز الشرطة لا تتجاوز 1.2 في المئة. وبعد مرور أكثر من 15 عاما على توصيات ماكفرسون، وجد تقرير صادر عن مركز البحوث «رانيميد» أن «العنصرية النظامية والمؤسسية ما زالت موجودة» في عمل الشرطة البريطانية.
رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون كان في البداية بطيئا في تقدير إلى أي مدى وجد مقتل جورج فلويد صدى في بريطانيا. وقد تم تجاهل دعوته الأولى إلى الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي. ومن جانبه، ركز وزير الداخلية بريتي باتل على «الأعمال الإجرامية»، رغم أن معظم الاحتجاجات كانت سلمية.
غير أنه يبدو أن جونسون أدرك أنه لا يستطيع تجاهل الغضب الشعبي. فمساء الاثنين الماضي، قال إن الكلمات التي نطقها فلويد قبل موته «أيقظت غضبا وشعورا واسعا بالظلم لا يقبل الجدال ولا يمكن إنكاره، شعور بأن الأشخاص من الأقليات العرقية يواجهون التمييز بالفعل: في التعليم، والتشغيل، وتطبيق القانون الجنائي». وبدلا من التقليل من شأن غضب المحتجين، اعترف بأنه شعور «مبني على واقع حقيقي».
وقد تكون الاحتجاجات اندلعت بسبب أحداث وقعت على بعد آلاف الأميال في بلد آخر، ولكنها تتضمن رسالة لجونسون أيضاً مفادها أنه إذا كان جادا بشأن «إعادة التوازن» لبريطانيا، فإن الأمر سيتطلب أكثر من مجرد مستشفيات وجسور جديدة.
*كاتبة متخصصة في الشؤون البريطانية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»