مثّل موتُ الرجل الأميركي الأسود غير المسلح «جورج فلويد» خلال اعتقاله من قبل الشرطة في مدينة مينيابوليس في الخامس والعشرين من مايو المنصرم، حدثاً صادماً وُثق في مقطع فيديو. هذا الأمر فجّر مظاهرات حاشدة عبر البلاد احتجاجاً على العنف ضد الأميركيين الأفارقة، وذلك على مستوى لم ير له نظير منذ أعمال الشغب التي اندلعت في عام 1968 في أعقاب اغتيال مارتن لوثر كينج. وفي غضون أيام، امتدت الاحتجاجات إلى عدد من البلدان الأخرى التي لدى مواطنيها تظلمات قوية مماثلة ضد قوات الشرطة وطريقة معاملتها للأقليات.
هذه الاحتجاجات العالمية تشير إلى حركة ديناميكية جديدة لإصلاح مؤسسات إنفاذ القانون التي بات ينظر إليها على نحو متزايد على أنها جد عنيفة وصدامية وتستخدم معدات وتكتيكات تلائم الجيش أكثر من العمل الشُّرَطي التقليدي، بينما ذهب بعض المعلِّقين إلى أن تداعيات مقتل جورج فلويد ستشمل لحظة مفصلية في المجتمعات الديمقراطية والجهود الرامية لتقليص العنصرية النظامية والقضاء عليها في العديد من المجتمعات.
كانت الاحتجاجات في الولايات المتحدة واسعة النطاق وفريدة من نوعها بسبب العدد الكبير للمواطنين البيض الذين شاركوا فيها. وباستثناء بعض أعمال العنف والنهب في الأيام الأولى من الاحتجاجات، كانت التجمعات سلمية على نحو لافت، مما يشير إلى مزاج جديد في البلاد يعكس تغيراً جوهرياً في الرأي العام تجاه العنصرية وعنف الشرطة ضد الأقليات.
الجهود التي بذلتها إدارة ترامب من أجل التركيز على المحتجين العنيفين والحاجة إلى فرض «القانون والنظام»، لم يكن لها تأثير كبير حتى الآن على المطالبات بإصلاحات جوهرية لمؤسسات إنفاذ القانون الأميركية. فعلى الرغم من أن ترامب أقر بأن موت فلويد مثّل خطأً فظيعاً، فإنه ما زال يعتقد أن 99 في المئة من قوات الشرطة تقوم بعمل ضروري وشجاع ولم تنخرط في عنف غير ضروري. والحال أن عدداً من الدراسات تُظهر، للأسف، أن عدد المدنيين الذين ماتوا في قبضة قوات الشرطة الأميركية أعلى بعدة مرات مقارنة مع مجتمعات ديمقراطية متقدمة أخرى. إذ تشير أرقام حديثة حول حالات الموت السنوية لدى أجهزة إنفاذ القانون إلى أن الولايات المتحدة لديها أسوأ سجل بـ1099 حالة وفاة مقارنة مع كندا (36)، وأستراليا (21)، وألمانيا (11)، والمملكة المتحدة (3)، واليابان (2). كما أن عدداً غير متناسب من الأميركيين الأفارقة يشكّلون الجزء الأكبر من تلك الوفيات في الولايات المتحدة.
هذا الجدل الجديد والمحتدم حول عنف الشرطة يأتي وسط وباء كورونا العالمي المتواصل، بل الذي يزداد سوءاً في العديد من مناطق العالم، وخاصة أميركا اللاتينية وأفريقيا. وفضلا عن ذلك، فإن المظاهرات العامة الكبيرة في الولايات المتحدة وأوروبا حدثت في ظل الحد الأدنى من تدابير التباعد الاجتماعي وتخلف العديد من المحتجين عن ارتداء كمامات واقية. وبالتالي، فالاحتمال الأرجح الآن هو أن الفيروس سينتشر من جديد مع إمكانية تسجيل ذروة أخرى في وقت لاحق من الصيف. كما تأتي الاحتجاجات في وقت تأمل فيه مدن رئيسية في الولايات المتحدة وأوروبا إعادة فتح أنشطتها التجارية من أجل استئناف الاقتصاد الراكد.
هذه الأحداث تصبّ الزيت على نار جدل سياسي محتدم أصلا في الولايات المتحدة حول مستقبل البلاد والانتخابات المنتظرة في شهر نوفمبر المقبل. ولعل أحد العوامل التي ستكون مؤثرة يتعلق بانفعال وحماس الناخبين الشباب الذين كانوا في الماضي أقل ميلا إلى الذهاب إلى مكاتب الاقتراع مقارنةً مع الأجيال الأكبر سناً. فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، أدت المشاعر القوية للشباب الأميركي تجاه عنف الأسلحة، وخاصة عمليات إطلاق النار الجماعية في المدارس والكنائس، ومخاطر تغير المناخ، وتأثيراته المحتملة على حيوات الشباب، والآن مشاعر الغضب والإحباط العارمة على خلفية عنف الشرطة وقضية «الحيوات السوداء مهمة».. إلى تشكيل كتلة ناخبة قوية من المرجح أن تدعم «جو بايدن» بدلا من دونالد ترامب. وإذا ظل الشباب متحمسين ومتحفزين للمشاركة بأعداد كبيرة في استحقاق نوفمبر، فيمكن القول إن أصواتهم إلى جانب أصوات المواطنين المسنّين القلقين بشأن فيروس كورونا وخطط الرعاية الصحية الخاصة بهم، قد توفّر مجالا للتغلب على ترامب في الولايات التي ستشكّل ساحات معارك انتخابية حاسمة.
ولعل أفضل أمل لدى ترامب للفوز بالانتخابات مجدداً هو أن يُنظر إلى الاقتصاد على أنه آخذ في التحسن قبل حلول نوفمبر القادم، وأن تكون الدعوات إلى وقف تمويل قوات الشرطة ومعاقبة ضباط إنفاذ القانون مقلقةً بما يكفي للناخبين المحافظين حتى يلجأوا إلى ترامب مجدداً من أجل حمايتهم من مجتمع بات متعدد الثقافات على نحو متزايد وذا آراء راديكالية بخصوص إعادة توزيع الثروة الأميركية على نحو يفيد الفقراء والمستضعفين.