يخرج الأب من البيت، وقد تسلّح بالكمامة والقفاز، وخبأ المعقم في جيبه، فإذا بالصغير يتشبّث في طرف جلبابه، مصمماً على مرافقته إلى السوق، ولكن الأب ينظر إلى صغيره الذي امتلأت عيناه ببريق الدمع البريء، فينحني إليه بشفقة، ويقبل خده المبلل بالدمع ويقول له: سامحني يا عزيزي، لا أستطيع أن أغامر بحياتك، ففي الخارج يكمن شر مستطير يقال عنه كورونا، والحكومة منعت اصطحاب الأطفال إلى الأماكن العامة حرصاً منها على حياتهم، وأعدك يا حبيبي، أنني سوف أجلب لك من السوق كل ما ترغب به، المهم أن تبقى هنا في البيت، أمام عيني أمك، ومع إخوتك، وبينما يقف الصغير مشدوهاً لا يفهم ما يقال له، وشفتاه تنبضان بكلمات ربما تجمّدت كأنها قطرات الندى على وريقات التوت، كان الأب يحاول أن يتملص من يديه الصغيرتين، وقلبه يعتصر ألماً ويلعن شيطان هذا الوباء الذي استطاع أن يفرض قانونه على البشر، على الرغم من كل الفلسفات الإنسانية، والتي أغرت الإنسان، وتحدّثت عن قدرة البشر في التفوق على الطبيعة، وسائر المخلوقات، توقف الأب ونظر إلى عيني طفله، منتزع الفؤاد، ولكن ليس بالإمكان أفضل مما يكون، فلا مراس من تنفيذ ما يسن من قوانين، لأنها كلها من أجل صحة الناس، وكان يعلم علم اليقين، أن دمعة الابن، أهون بكثير من أن يقع في شراك الوباء اللعين، وما أن صفق الأب الباب من خلفه، حتى هرع الصغير إلى حضن أمه باكياً شاكياً من تصرف أبيه الذي رفض اصطحابه معه إلى السوق، ولكن الأم بوعيها، ولطافة مشاعرها، أخذت الصغير إلى صدرها، وضمّته بحنان الأم الرؤوم، ثم كفكفت دمعاته بأصابعها، وقبّلت خده بحنان بالغ، وقالت له بلغة أرق من وشاحها الحريري: كان بود أبيك أن يصحبك معه إلى السوق، ولكن هناك يا حبيبي، وباء اسمه كورونا، يصيب الناس
ويسقطهم على أسرّة المرض العضال، ويظلون يعانون منه أشد المعاناة، وبعضهم يفارق الحياة جرّاء وطأة المرض، وعدم قدرتهم على تحمل ضرباته العنيفة في أجسادهم.
يرفع الصغير وجهه، ويتأمل محيا أمه، ويظل هكذا وكأنه لا يصدق ما يروى له، ولكنه أمام جدية الأم يذعن لما تقوله، ويرخي رأسه على كتفها، ثم يردف: وأبي متى يعود؟ لا أريده أن يغيب عنا طويلاً، فأنا أخشى عليه من الإصابة.
تبتسم الأم وتضع يدها على رأس الصغير، ثم تستطرد قائلة: لا عليك يا بني، أبوك قد أخذ الحيطة والحذر، وكان لا بد أن يذهب إلى السوق، وإلا سيفرغ البيت من أي لقمة تشبع جوعنا.