رمانا العزل في أنفسنا، حرضنا على تجربة الزمن، على مساءلتنا حول طبيعة علاقتنا بمحيطنا المباشر وغير المباشر، بل دفعنا إلى العيش فعلاً في الحاضر.
فالحاضر هو البعد الجوهري الذي يحفظ كل الماضي ويستشف المستقبل. هذا ما كان يسميه الفيلسوف الكبير هوسرل «الحاضر الحي»، لتمييزه عن الحاضر الميت الذي يختزل في هذه الذرة التي هي اللحظة المقطوعة انقطاعاً تجريدياً عن خط الزمن. فالعيش بقوة في الحاضر هو الانفتاح المملوء على الوضع الذي نعيشه في العالم، ونلتزمه، ونستوعبه، وننخرط فيه.
وكلنا يعلم، وبطريقة دلالية، أنه بعد أيام من بداية العزل، بدأ كثير من المثقفين، يفسرون (أو يتبنون) ما يمكن أن يماثله عالم ما بعد أزمة كورونا: نفي الحاضر، والقفز العشوائي إلى المستقبل! فبالنسبة لبعض هؤلاء تحمل هذه الأزمة علامات نهاية العولمة وعودة الجميع إلى الحدود المرسومة، والانعزال فيها، بينما يرى آخرون انتصار الخط الصيني على فوضى الديمقراطيات الغربية التي تتجلى في أزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة، ما يعيد إنتاج زعماء وحركات شعبوية.. وهكذا بدلاً من تأمل الحاضر المعيش، نحاول الهرب إلى المستقبل، بل نحاول إعطاءه ألوان اليوتوبيا.
وبموازاة ذلك، ثمة مواقف أخرى: بعضهم راح يقارن وباء كورونا بالتجارب الدرامية لاستحضار الطاعون الأسود، الإنفلونزا الإسبانية، إنفلونزا هونج كونج، بل ذهب بعضهم إلى مقارنة كورونا بالحرب العالمية الثانية.
لكن، هذا الوباء الذي عزل أربعة مليارات إنسان، كان أول «حدث» معلن منذ 1945، إنها المرة الأولى بعد الانتصار على النازية التي يختبر فيها العالم هشاشته، وشروطه، وصلابة قيمه أو ضعفها، وهكذا، فإن الهاجس المتمثل بتكرار الماضي قد تشوش حتى الفراغ، كأنما رفض الحدث الجاري، والاستسلام لآثاره!
تقول الفيلسوفة الألمانية حنة ارندت: «لا تصبح الأزمة كارثة، إلا إذا واجهناها بأفكار جاهزة، تجعلنا نمر إلى جانب هذه التجربة الحقيقية ونتخطاها». وتضيف: «مصدر الحرية المعبَّر عنه هو القدرة على تلقائية الاعتراف بالحدث». ويعني ذلك أن ذكريات الماضي تثقل علينا، والمفاهيم اليوتوبية للمستقبل تضيعنا. وحده الحدث الماثل يجعلنا أحراراً في التعامل معه، فأزمة كورونا ليست عابرة، وستكون لها آثار طويلة الأمد ولا يمكن التكهن بها.
وعلى المستوى الاقتصادي يقال إن الدول ستكون أكثر حضوراً كمرجعياتٍ أساسية، وإن دولة الرعاية ستسجل عودة كبيرة بعد الشكوك التي أصابتها جراء العولمة. لكن هذا التكريس، يمكن أن يفرض تموضع النشاطات الحيوية، ويمكن أن يحدث العكس فيتصلب نظام «اللبرلة» ويتهالك، ما يسبب بطالة وهبوطاً في العملة.
لا ملاذ الماضي المطلق صالح، ولا القفز إلى المستقبل شافٍ. لذلك نرى أن علينا محاولة التقاط ثلاثة أبعاد للتجربة الحالية، فهذه الأزمة قد أرغمتنا على استبطان ذواتنا، وعلى التساؤل: ما هي القيم التي تقود حياتنا؟ وعلى محاولة إعادة النظر، انطلاقاً من الحدث، بالشروط المادية وغير المادية التي اعتنقنا طويلاً. كما دفعتنا الأزمة إلى التفكر في إطار واسع ورحب، خروجاً من المقاربات الضيقة المحددة.. ولهذا، يجب البحث عن بوصلة يمكن أن ترشدنا في هذه الأيام الملتبسة، تكون مجردة من يوتوبيات المستقبل، وأثقال الماضي، بل على العكس، تكون برغماتية، حية، واقعية.. إذن، لا خرافات السابق وأساطيره، ولا كهانة المستقبل وعرافوه.. إنها بوصلة الحاضر!