بالكاد كانت «كيكو أوشيا» تبلغ من العمر 16 عاماً، عندما قبلت هدية صديقتها التي كانت عبارة عن تذكرة سفر بالقطار إلى مدينة أخرى، والحقيقة أن الهدية لم يكن مخططاً لها، فكل ما في الأمر أن الصديقة مرضت، ولم تشأ أن تذهب قيمة التذكرة التي ابتاعتها سدى، فكانت من نصيب «كيكو» التي قبلتها فوراً، وانطلقت صاحبتنا في صباح اليوم التالي إلى المحطة مستقلة لقطار الساعة الثامنة، واتخذت لنفسها موقعاً مميزاً بجانب النافذة، ممنية نفسها برحلة مختلفة، وبالفعل كان كذلك؛ إذ لم يمض وقت طويل على تحرك القطار، إلا وإذا بسحابة «فطر» ضخمة تَرَاءت لها من جهة مدينتها «هيروشيما»!
كان ذلك بعد أقل من ربع ساعة على إطلاق الأميركيين قنبلة نووية على مسقط رأس تلك المراهقة، يوم السادس من أغسطس عام 1945 في هيروشيما؛ وسحابة الفطر هي أثر الانفجار من الغازات والدخان الذي تصاعد، ومن بعدها لم تر «كيكو أوشيا» مدينتها مرة أخرى كما تركتها، تبلغ «كيكو» اليوم 91 عاماً، ولها أحفاد لديهم أبناء، وما زالت تذكر تلك الحادثة التي مر عليها 75 عاماً وكأنها أمس.. تقول: لم أر صديقتي صاحبة الهدية.. لقد ماتت في ذلك الانفجار الذي تسبب بمقتل أكثر من 135 ألف شخص.
يا تُرى كم مرة شاء القدر أن حدث لأحدنا مثل هذه التحولات في حياته؛ بأن نأتي على أمور لم نخطط لها مثل قبولنا هدايا معينة أو دعوات أو حتى تأخراً في طريق، وتغيير وجهة، وحدث أن ذهبنا بسبب ذلك إلى مناطق غيّرت فعلاً من مسيرتنا الحياتية؟! أمور غير متوقعة، بعضها يتبعها حسن الحظ؛ وفي بعضها الآخر لم يخلف فقط أشياء غير متوقعة، وإنما وغير مقبولة، ليست لكونها تأتي دون ترتيب واستعداد، وإنما لأنها مؤذية، تخلف ألماً لصاحبها.
بالتأكيد «كيكو أوشيا» ما زالت تعاني ألم تلك اللحظة، وما تبعها من تأنيب ضمير، لكونها حلت مكان صديقتها التي كان من المفترض أن تستقل القطار بعيداً عن تفجير «هيروشيما»، ولكنها أيضاً تدرك غاية بقائها هي بالذات من دون عائلتها على قيد الحياة. إن قدراتنا نحن البشر تتعطل تماماً أمام ما يحدث لنا وقت حدوثه، فلا نُدرك أنها غايات مُنظمة بقواعد وقوانين لا تُفهم مقاصدها بسهولة؛ ولكن مع تدبرها والصبر عليها وتأملها ومراقبة نتائجها بعد زمن.. قد نحظى بفهم غاياتها.