هو روح الشاعر والفنان وعقل الفيلسوف المتأمل. والشاعر يسبق الفيلسوف كما يقول هيدجر. فالإنسان يعيش في هذا العالم شاعراً قبل أن يكون فيلسوفاً. فالشعر هو أصل الفلسفة. لذلك أحال كثير من الشعراء أبطالهم إلى هوميروس. الشعر يدرك ماهية الوجود، والفلسفة تخضِعه للتحليل والتصورات. وإذا تأمل الفيلسوف فإنه يتأمل في تجربته الشعرية. وكلاهما، الشعر والفلسفة، إحساس مرهف بالعالم. التجربة واحدة وإن اختلفت الصياغات؛ الخطاب الفلسفي في الفلسفة والبيت الشعري في الشعر. إنه تقليد ألماني عند هيلدرلن ولسنج وجوته وهايني والرومانسيين الألمان.
بعد عودتي من فرنسا عام 1966 تعرفت على مجموعة من أصدقاء كلية الآداب، وكنا جميعاً ننتظر التعيين، سواء من حاملي الدكتوراه من الداخل مثل تليمة والقاضي، أو حامليها من الخارج مثلي. ثم عرفت مصر محنة الهزيمة عام 1967، وكانت تعز علينا المطالبة بأمور شخصية وسط محنة الوطن. كانت سهير القلماوي، وهي عضو بارز في مجلس الكلية، تريد تعيين تلميذها تليمة. وأخيراً لقط «فؤاد زكريا» عبدالغفار مكاوي ليعينه في عين شمس، ثم بعد ثلاث سنوات من التعيين تمت إعارته للكويت. ولما أراد عبد الرحمن بدوي أن يقوم بنفس الشيء معي، فقبلت التعيين في عين شمس، لكن لم تكن لي ذكريات هناك، وأخبرته بأن «الحوائط لا تكلمني» فاتهمني بالصبيانية، فسحبت تعييني وعين بدلا مني عزمي إسلام. وفضلت الانتظار عاماً بأكمله حتى يتم تدبير نقل درجة من قسم إلى قسم وموافقة رئيسي القسمين ثم مجلس الكلية ثم مجلس الجامعة ثم وزير التعليم العالي. واقترح الأهواني رئيس القسم وقتئذ أن يتم تعييني مباشرة بلا إعلان، إذ يكفي حصولي على الدكتوراه من فرنسا (جامعة السربون) دون ما حاجة لتزكية أخرى.
ولما كان العمر يتقدم وحياة العازب ينقصها القرين، استشارني عبد الغفار ذات يوم فقلت له: لا تتردد. والحمد لله فقد فعل ورُزق ذريةً صالحةً. أُصيب عبدالغفار في عينيه من كثرة الانكباب على القراءة والكتابة في عصر لم تكن الحاسبات الآلية فيه قد شاعت. وقد أغراه رئيس القسم حينئذ في عين شمس بالسفر إلى الكويت إعارةً، فذهب وزرع الحكمة هناك لفترة مؤقتة، لكن طالت المدة، ففُصل من عين شمس مع زملاء له آخرين. وبعد غزو الكويت عادوا إلى مصر يبحثون عن وظائفهم الضائعة، فوجدها البعض ولم يجدها البعض الآخر. وفضّل الشاعر الفيلسوف المكوث في المنزل والتحول إلى كاتب من منزله. فماذا ستعطيه الوظيفة وهو الذي كان يعطيها الاسم والمضمون؟! ظل صامداً على اختياره، لا يشكو عزلة أو ابتعاداً اختيارياً من الجامعة؛ لا يمارس أي نشاط فلسفي إلا نادراً، وبعد ضغط عليه قد يقوم بإعطاء محاضرة في الجمعية الفلسفة المصرية أو يشارك في ندوة بقسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة، كان آخرها يوم تكريمه من القسم كلمسة وفاء له. وحضر وأعطى الكلمة الأخيرة وهو لا يدري أنها كلمة الوداع. بدأ بصره يضعف، ويخشى من التدخل الجراحي خشية أن يفقد البصر كلية.
ويظل اسم عبد الغفار مكاوي رمزاً للجمع بين الشعر والفلسفة، بين الكتابة والتأمل، بين الانعكاف على الداخل والخروج إلى العالم لرؤية ما فيه. هو العاشق للحكمة وشهيدها العصري مثل سقراط.


*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة