في عام 1954، ألف «داريل هوف» كتاباً بعنوان: «كيف تكذب بالإحصاء» How to Lie with Statistics، يلفت الانتباه إلى الأخطاء البسيطة والجسيمة التي نقع فيها حين نستسلم تماماً للأساليب الإحصائية من أرقام ومعادلات ورسوم بيانية، لأنها قد تعطينا انطباعاً أو تصوراً أو رؤية أو فكرة غير واقعية عن الظواهر التي نتابعها وندرسها، بينما نحن قد تركنا رؤوسنا تماماً لمقولة مفادها «الأرقام لا تكذب»، فمن الناحية الشكلية يكون الأمر صحيحاً، أما من الناحية الواقعية فأحياناً يكون خاطئاً تماماً.
إننا لن نستغني بالقطع عن وسائل القياس، لكن علينا أن نعلم أنها أحياناً تكون سيئة وغير مفيدة، إنْ جمعنا البيانات بشكل خاطئ أو متعجل أو متحيز، أو قرأناها بالعيوب نفسها، أو فسرناه على نحو غير علمي وغير عادل، أو كنا نريد أن نوظف الأرقام في التحايل على الحقيقة.
هنا يقول الكاتب نفسه: «في عالم تغلب عليه ثقافة التفكير بالحقائق، تبدو اللغة السرية للإحصاءات جذابة جداً، على الرغم من توظيفها لخلق الإثارة والتشويش والتضخيم والالتباس، لا أحد يستطيع أن ينكر دور الوسائل والمصطلحات الإحصائية في تطويع الأحجام الهائلة من البيانات الاقتصادية والاجتماعية، لكن إن لم يترافق هذا مع وجود كُتّاب نبهاء وأمناء وقراء وأعين، فإن النتيجة لن تكون أكثر من مجرد هراء».
ويعبر الروائي الأسكتلندي عن الانحراف في استعمال الإحصاء بعبارة بليغة، يؤكد فيها أن البعض يستخدم الإحصاء كما يستخدم السكارى أعمدة النور المغروسة في الشوارع لتساعدهم على الوقوف وهم يترنحون، فتحميهم من السقوط، وليس كمصدر لضوء كاشف يعينهم على رؤية الطريق.
وهذه المزالق التي تقع فيها الإحصاءات، تجعل للحدس والسليقة والإلهام دوراً في معرفة بعض ما هو قائم، وبعض ما سيأتي، عبر الاتصال بوعينا الداخلي، الذي يتشكل من الفطرة السليمة، وخبراتنا وإدراكنا، ومعلوماتنا المتراكمة المختزنة في الذاكرة، عن الماضي والمستقبل معاً، أو في العقل الباطن، كي نصل في النهاية إلى معرفة غريزية أو فطرية تتهادى إلينا تلقائياً أو عفوياً، ونسميها أحياناً «البصيرة».
والإيمان بدور الحدس في صناعة البرهان، جعل كثيرين يطلبون منا جميعاً أن نتمرن على امتلاك حدس سليم، عبر التمكن من قراءة مشاعرنا بشكل دقيق، وهي مسألة لا تغفل الطاقة العقلية، فأصحاب الحدس القوي يمتلك كل منهم ذهناً حاداً، وبالتالي يمكنه أن ينظر في سرعة إلى كل الخبرات والمعلومات المختزنة لديه، ليخرج في النهاية بقرار صائب، أو هو الأقرب إلى الصواب.
من أجل هذا لا يجب استبعاد القدرة على التخيل من العناصر الأساسية في فهم السياسة، وتقييم السياسيين، وقد كان أحد المفكرين حصيفاً، حين سئل عن رأيه في مسؤول ظل قريبا ًمنه سنوات طويلة: «عنيد كأنه صخرة، لدرجة أنك تتأكد تماماً من أنه لم يقرأ كتاباً في حياته».
فهذا الرأي جعل من امتلاك المسؤول قدرة على الخيال فضيلة مهمة، والأمر بالفعل على هذا النحو، فخياله إنْ كان خصباً ثرياً لا ينعكس فقط على اتخاذه القرار، بل يلهمه قدرة جيدة على اختيار وتوظيف العناصر اللازمة في مرحلة صناعة القرار.
ولا يعني الخيال هنا مجازفة أو مقامرة، حذر منها البعض كما تقدم، إنما يعني بوضوح استبصاراً وتأملاً لا يدور في فراغ، إنما يعتمد بالأساس على الوعي والخبرة وذكاء المشاعر، وذكاء الروح، الذي يعني قدرة الروح، التي هي جوهر الإنسان وأصل وجوده، على اختيار الأفضل دائماً، وعند هذا الحد لا تكاد تخلو أي علاقة إنسانية من دور ما للخيال، بما في ذلك السياسة، فكراً وممارسة.