يسري الليل رويداً رويداً كأن له حكاية غريبة، تمر الكائنات كأن بها ثمالة زمنية عطرة، تفوح منها قصص لا صدى لها، تمر من خلال طرقات إسفلتية مضيئة على غبش، والليل كعازف يعزف على المدى البعيد، يدندن على أحاديث المارة التي خلت، إلا أن لا أحد يأتي متأخراً، بل يتردد الليل غريباً لتتسع حروف الصمت، حتى الزمن ملأ الصدر منها، وبات كل شيء على يقين بأن لا شيء يتمدد هنا في هذا الرتم الغريب سوى السكون، الذي بات يتغلغل في ذواتهم. بات لا يطرق باب الليل سوى الصمت، لا شيء سوى هذيان يغشى الروح، يسكنها على مضض، يرج منها زجاجة الحبر لعل القلم يكتب ما تمليه النفس.
لعل القلم يكتب ما تفضي عليه الشبابيك النائمة، والأبواب المؤصدة منذ زمن، أو ما نحسبه هدوءاً جميلاً بات كأضغاث كونية، ربما بددت أحلاماً كانت في الذاكرة، ربما كانت قريبة ترى بالعين المجردة، فقد تلاشت الأحلام وفي ومض الهدوء، صهر الزمن نفسه في بوتقة غريبة، لم يعد يتسربل سريعاً، بل كان جارفاً ومخيفاً.
باتت حكاية الوقت متورطة في قبضة الكون، لم يعد شيء يتوهج مثلما كان، أو ما يصبو إلى حرية تشعل الزمن، وأحياناً تربك المعنى الحقيقي للحياة، لا شيء يلفت بها نحو الذاكرة، حتماً كان النسيان لها مدى عجيباً، كنا في قولبة الكون، وفجأة تشكلت مرايا جميلة لنرى أنفسنا عن قرب، نرى ذواتنا ونشعر بها كالخيال، نفك طلاسم الوقت، صار الحزن أمامنا، نرى ونسمع شهقات الموتى، صار الوقت فتاتاً نمضغ فيه الحسرات، ما عاد زهو الكون يعني أحداً.
كانت الحياة من تفاصيلنا الوقتية، وأحياناً لا ندقق في تفاصيلنا ولا الوقت يدعنا.. بل الوقت كان ينبئنا بما هو آت، كانت الأرض من رائحة الحياة والبشر، كنا نسير على رحب اتجاهاتنا، ونقيم الصلاة في بيوت الله، ونسعى بين الظلال في وقار ونرسم التعامل بيننا عن قرب، ونطمئن لوجودنا، وكنا نزهو من بلد إلى بلد، والبلدان هي محطاتنا ومراسي وجودنا، لأن قرية الكون كانت متاحة للجميع، ترفدنا بجمال الحياة وثقافتها وتبهرنا بمكونّا الإنساني الحقيقي الذي يستحق أن نسعى من أجله.
نستحق أن نعرف لماذا أصبح الكون نقياً وطاهراً كأنه بكر من جديد، والتراب ينبت دون غبار ومن دون تلوث بيئي.. خفتت الآلات كأن الحياة تقتبس الثبات من الرؤى دون شتات وهيمنة، ومن دون اكتراث.