تنبأ هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، في مقاله بصحيفة «وول ستريت جورنال»، بتغير النظام العالمي إلى الأبد بعد كوفيد-19، واتفق المفكرون وعلماء الاجتماع السياسي مع الثعلب العجوز في رؤيته، فالفيروس أحدث هزّة عنيفة في المجتمع الإنساني وهو يدفع نحو تغيير كثير من الأفكار والمواقف بل والثوابت أيضاً.
إن الدرس المهم الذي لقّنه الفيروس للعالم، هو حاجة البشر للبحث العلمي أكثر من حاجته لترسانات الأسلحة التي تهدد الحياة على الأرض، وهذا بلا شك أمر في غاية الدقة، ولهذا فالعبء يقع بالدرجة الأولى على كاهل الحكومات بضرورة مضاعفتها الميزانيات المخصصة لإنقاذ الإنسان، ولا بد أن يكون هذا على رأس أولوياتها، وبالتالي تحويل غالبية ما تنفقه على تصنيع السلاح وتطويره على البحث العلمي، وخصوصاً الصحة الوقائية من الأمراض الوبائية التي ثبت أنها نوع آخر من الحروب، التي لا بد أن تواجهها الدول التي ينبغي عليها أن تنصت لمنظمة الصحة العالمية، التي كانت قد دعتها من قبل لزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية، خاصة أن الخدمات الصحية الأساسية بالكاد تغطي نصف سكان العالم، وأن حجم الإنفاق على الصحة عالمياً لا يزيد على 7.5 تريليون دولار سنوياً، وهو مبلغ ضئيل بالمقارنة مع الأموال التي تنفق في تصنيع وشراء الأسلحة.
مركز ستوكهولم لدراسات السلام بالسويد، كشف أن العالم عام 2018 أنفق 1822 مليار دولار لتصنيع السلاح، في حين أن معدل عمليات تصدير السلاح بين عامي 2014-2018 زادت بمعدل 8% عن الفترة بين 2009-2013.
كوفيد-19 أسقط ورقة التوت عن الأنظمة التي تتحكم في مصائر مليارات البشر، وخلال القادم من أيام سنكتشف المزيد من نتائج وتأثيرات هذا الفيروس على العالم أجمع وفي مختلف المجالات، وكذلك على العولمة بعد أن فرضت الدول عزلة إجبارية على نفسها، وبدأت بإيلاء أمنها القومي اهتماماً أكبر من جهة الاكتفاء الذاتي، وتوفير السلع والخدمات الحيوية.
وفي محاولة لاستقراء المستقبل القريب، ورصد التغيرات المتوقعة اقتصادياً، فإن شبكة الإنترنت ستطغى على التعاملات التجارية، وملايين الفرص الوظيفية ستختفي، فيما ستظهر الحاجة لوظائف أخرى، وبالتالي سيكون ضرورياً تدريب الكوادر على إنجاز معظم الأعمال إلكترونياً.
على الصعيد السياسي، يكفي النظر نحو الاتحاد الأوروبي الذي بات مستقبله فعلياً على المحك، ويكاد يسيطر على المشهد انقسام دارماتيكي فيه، علاوة على الشرخ النفسي الذي أحدثه الفيروس لدى الأوربيين، خاصة أن إيطالياً -إحدى الدول المؤسسة للاتحاد- استنجدت بشقيقاتها، لكنها في النهاية أعلنت عن مرارتها من عدم التعاون معها في تجاوز محنتها.
باغت كوفيد-19 العالم أجمع، ليكون بمثابة اختبار حقيقي للزعماء وقادة الرأي والحكومات، وقد يكون بالفعل فرصة عظيمة لتصحيح مسار البشرية، ولكن ما هي القرارات العالمية التي ستتخدها الدول العظمى؟ وهل سيصل بها الأمر إلى تجاهل ضرورة تغيير سياساتها في العالم؟
كي يتخطى العالم هذه الأزمة الكبيرة، ليس أمامه إلا خيار التعاون فيما بينه، فهذا يشكل طوق نجاة للبشرية، وعلى الزعماء اليوم- وأكثر من أي وقت مضى- تجاوز الخلافات والمشاكل القائمة في ما بينهم، والتفكير جدياً بما هو في صالح البشر، وبما يضمن حياة مئات الملايين، كونهم يواجهون بحق مصيراً سيئاً للغاية، وخاصة في الدول الفقيرة والدول النامية ومناطق الصراعات والحروب.
المصير واحد، وحياة الناس أجمع في طور الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وإذا انتصر منطق الحكمة على منطق الصراع والسلاح، سيتم ترتيب الأولويات، وستصل البشرية إلى بر الطمأنينة والأمن، إذ لا يُعقل أن يُضم الفيروس إلى الترسانة المخيفة من الأسلحة التي يملكها العالم أصلاً، فيما أكثر من مليار و300 مليون نسمة لا يجدون أقواتهم ولا أدويتهم.