لقد سلطت أزمةُ كورونا واستمرارُها الضوءَ، وربما أكثر من أي أزمة سابقة، على عدد من الاختلالات ونقاط الضعف التي يعاني منها الاقتصاد العالمي في كل منظوماته، بل إن هذه الجائحة قد تخطف مستقبل الاقتصاد العالمي، وتزيد من اتساع الهوة بين الطبقات المجتمعية، ومن المحتمل أن تدفع أكثر من 500 مليون شخص إلى حالة الفقر المدقع، إذ يمكن أن تتجاوز تكلفة الجائحة 4000 مليار دولار، أي ما يمثل نسبة تتراوح بين 2.3% و 4.8% من الناتج المحلي الإجمالي في جميع أنحاء العالم.
ولعل ذلك مما سوف يزيد في تأجيج الصراع وروح التسابق بين الدول العظمى لاحتلال المرتبة الاقتصادية العالمية الأولى، ومن ثم تصدر المشهد السياسي الدولي، فمنذ عام 2018 عرفت العلاقات الاقتصادية الأميركية الصينية مرحلة جديدة وجد متوترة، نتج عنها فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركيةً جديدةً على معظم المنتجات المستوردة من الصين، ثم من معظم دول العالم، ومنها الدول الحليفة الأعضاء في حلف «الناتو»، وهو الإجراء الذي أدخل العالم في «ركود اقتصادي حاد»، بدأ يتحول إلى أزمة اقتصادية عالمية بالتدرج، وصلت ذروتها بعد تدهور أسعار البترول وتفشي وباء كوفيد -19.
واليوم، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، والحرص القوي من جانب الجمهوريين للفوز بالرئاسيات المقبلة، بغية تمكين الرئيس دونالد ترامب من ولاية رئاسية ثانية، تسعى بعض القوى السياسية في الولايات المتحدة إلى أخذ أزمة العلاقات الأميركية الصينية كـ«حصان طروادة»، وتحاول أن تدفع البلدين باتجاه حرب باردة جديدة، الأمر الذي حذّر منه وزير خارجية الصين «وانغ يي»؛ حين وصف هذه التحركات بـ«الفيروس السياسي»، بالرغم أن التعاون بين بكين وواشنطن يعود بالنفع على البلدين، وأن المواجهة تعود عليهما بالخسارة، مضيفاً أنه على الجانبين إيجاد السبل للتعايش السلمي.
وهناك مشروع مبادرة «الحزام وطريق الحرير الجديد» الصيني، الذي يهدف إلى ربط طرق التجارة الدولية عبر خطوط برية وبحرية، على نطاق يشمل أزيد من 123 دولة حول العالم، والذي تصرف عليه بكين حوالي تريليون دولار، وقد رصدت له أربعة تريليونات دولار أخرى، إذ يطمح الرئيس الصيني «شي جين بينغ»، كما أوضح في كلمته الافتتاحية في مؤتمر «مبادرة الحزام وطريق الحرير»، إلى أن يجعل من مبادرة الحزام والطريق حامية للبيئة، وأن تسفر عن تنمية عالية الجودة للجميع.
إلا أن الولايات المتحدة الأميركية، ومعها الدول الغربية، ترى في المبادرة وسيلة لمد النفوذ الصيني في الخارج.
نهاية سنة 2020 وبداية 2021 قد تكون نهاية الهلع والخوف العالميين من شبح الموت المسمى «كورونا» الذي يلاحق شعوب العالم، ويدمر اقتصاديات الدول دون تمييز، مما قد يحول -وفقاً لبعض المحللين- صراع القطبين الأميركي والصيني إلى قوة تنسيقية ويدفع بهما إلى تعاون لا مفر منه، إذا أرادت كلتا الدولتين ضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتفادي ظهور عوارض وأزمات اقتصادية وسياسية جديدة.
لقد أصبح الجلوس على طاولة المفاوضات، والبحث عن الخطط الاقتصادية المشتركة وتفعيلها أمراً ملحاً، وذلك عبر إشراك كل الدول المتقدمة والنامية على السواء، لرسم نظام اقتصادي عالمي جديد، يضمن استقرار السوق الاقتصادي العالمي، ويحمي الاقتصاديات الوطنية من أي هزات مفاجئة، ويرفع من المستوى المعيشي لمواطنيها، ويزيد من فاعلية النظم الصحية في مواجهة الأوبئة.
لقد كشفت أزمة كوفيد -19 عن نقاط الضعف، لكنها كشفت أيضاً، وقبل كل شيء، عن مهارات الشباب وقدرات العلماء وإمكانيات الدول والشعوب.. مما لم نكن لنكتشفه في الوضع الطبيعي، لذا على الدول أن تحرص كثيراً على عدم فقدانها أو التفريط في جزئياتها، والتأكد من تقويتها وتطويرها، وإدراجها في منظوماتها واستراتيجياتها المستقبلية، والعمل على إضفاء طابع مؤسساتي عليها، وجعلها دعامة لانطلاقة فورية لأعمدة بناء نظام اقتصادي عالمي نموذجي.
وسيتطلب نجاح الدول العربية في مرحلة ما بعد «كورونا» صياغة استراتيجية جديدة، تقوم على مصالح ومنافع متبادلة بينها، وهو موضوع لم يعد ترفاً فكرياً، بقدر ما هو ضرورة حيوية ووجودية، وأمنية للعبور نحو الحقبة الجديدة من النظام الاقتصادي العالمي الجديد.