إن القيم تَحُوطنا بالحماية متى وجدت، وترسم لنا الطريق اللاحبة متى قادتنا، وفي كل حقبة زمنية تُقدم لنا أفضلَ ما أنْتجته التجاربُ وحضارات الأمم والشعوب، وما جاءت به تعاليم الأديان، وجادت به قرائح أهل البصائر والنهى، ومن أعظم الدروس والعبر التي استوعبناها وما زلنا نستوعبها من جائحة كورونا، «قيمة المسؤولية».
أجل، المسؤولية هذه القيمة الشاملة للإنسان، ومن خصائصه الكبرى التي يتحلى بها، فهي مما يتميز به أبناء آدم دون غيرهم، وقد أشار ربنا إلى ذلك في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ والأرضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْن أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهولًا} ولا غرو أن هذا من تكريم الله تعالى لهذا الإنسان، وجدير به أن يتحملها، وهو في حقيقة الأمر لا يستطيع الانفكاك عنها، فهو يتحمل نتائج أفعاله، وإن تعددت أصناف المسؤوليات من قانونية ودينية واجتماعية، إلا أن كل مسؤولية في النهاية هي أخلاقية، لما لها من الأثر على النفس البشرية، لهذا قال الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} بارتكابهم ما يضر بهم، وجاءت قواعد الشريعة الإسلامية لترسيخ هذه القيمة الإنسانية، من خلال أبواب كثيرة من أعظمها «فروض الكفاية» المتناثرة في تعاليم ديننا، والتي تشمل ما هو ديني ودنيوي، وهدفها الحفاظ على المصلحة العامة والشعور بالمسؤولية المجتمعية، ومن جوامع الكلم النبوي المعجز التي نبهت على هذه الأهمية، وحمَّلت كلَّ فرد أداء هذا الدور القيمي، قوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ).
إن استحضار المسؤولية في التوقي من هذا الوباء والتغلب عليه، يُحيلنا على نظرية فلسفية انتشرت في القرن الماضي، تَعتبِرُ مبدأ المسؤولية نواة «أخلاق المستقبل» ويقود هذه النظرية الفيلسوف الألماني «هانس يوناس» الذي قرر أنه لا يمكن الفصل بين الإنسانية والمسؤولية، واعتبر في نظريته أن هذه القيمة الجوهرية هي القادرة على حماية الإنسان مستقبلاً، بل وحماية كوكب الأرض جميعه من المخاطر الكبرى البيئية والتكنولوجية والصحية وغيرها.
فالقيام بالمسؤولية هو السد المنيع والحل الملائم لتجاوز جائحة كورونا، فحين نشعر بالمسؤولية ننجو ونؤدي واجبنا تجاه الآخرين. ومع فقدان روح المسؤولية نوري على الأنفس والأهل نيراناً من هذا الوباء، ونكون سبباً في تسعرها في المجتمع، وأدعى ما يهمنا اليوم من هذه القيمة، مسؤولية التعايش مع هذا الوباء بحذر واحتياط، والأخذ على كواهلنا الملتئمة حماية أنفسنا وأبنائنا ومجتمعنا وأوطاننا، وأمننا الصحي، وإدراك أن خطأ واحداً يخل بهذه المنظومة، قد يُهدِّد حياتنا وحياة الإنسانية برمتها، فالجميع يُبحر في سفينة تعترضها أمواج متلاطمة عاتية، ونريد لها أن ترسو على شاطئ الأمان بجميع ركابها، فلا عذر لأحد بخلع ربقة المسؤولية عن عاتقه وعدم المبالاة بأحد، فذلك إخلال ظاهر، وانسلال عن الإنسانية.
إن الوعي بالتحديات الراهنة لهذا الوباء هو منطلق المسؤولية، والالتزام بالإجراءات الاحترازية، والتعليمات الصحية، والتدابير الوقائية هو عين المسؤولية، وقد حصل لنا في الفترة الماضية قدر كاف من الوعي بالإرشادات الصحية والتوجيهات اللازمة، مما علمنا من أبجديات هذا الدرس الشيء الكبير، وجعلنا بالمسؤولية نمارس العمل عن بُعد دون مراقبة لصيقة، وبالمسؤولية نعلم أولادنا، وبالمسؤولية يتعلمون ويختبرون عن بُعد، وبالمسؤولية نغيّر كثيراً من العوائد ونعيد النظر في سلوكياتنا، وبالمسؤولية نتبع أسلوب حياة جديداً، يواكب الواقع، ويدرك التحديات، ويحد من فضول التصرفات، وتلك ممارسات جادة تعلمناها ينبغي الإحساس بها واستحضارها وتَحَمُّلها ومكابدتها بكل اقتدار، لنحقق معاً في ظل هذا الوباء وغيره مؤشراً لا يدانى في المواطنة الصادقة.
ولقد أحسن من قال:

يا راعيَ النّفسِ لا تُغْفِلْ رِعايَتَها        فأنتَ عن كلّ ما استرْعَيتَ مَسؤولُ
يا طالِبَ الخيرِ ابشرْ واستعدَّ لهُ         فالخيرُ أجمعُ عند اللهِ مأمولُ


*المدير التنفيذي للشؤون الإسلامية في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف