عندما أقر مجلس الشعب السوري (البرلمان) في أواخر شهر نوفمبر الماضي موازنة سوريا للعام الحالي والبالغة 4 تريليونات ليرة سورية، كانت تساوي نحو 9.2 مليار دولار أميركي بسعر الصرف الرسمي المحدد من البنك المركزي متمثلاً في 434 ليرة للدولار. ورغم اعتبار هذه الموازنة بأنها الأعلى في تاريخ سوريا بالليرة، إلا أنها تعتبر الأدنى بسعر صرف الدولار، وبفارق كبير مقارنةً بحجم موازنة العام 2011 (قبل الأحداث) والبالغة نحو 16 مليار دولار، عندما كان سعر الصرف 45 ليرة. لكن الكارثة المالية والاقتصادية الكبرى التي تواجهها الحكومة السورية حالياً تكمن في الانهيار الكبير لقيمة الليرة التي تدهورت في الواقع إلى أكثر من 1700 ليرة مقابل الدولار، بحيث تنخفض أرقام الموازنة إلى 2.35 مليار دولار، وبما يعادل فقط 14.6% من موازنة العام 2011.
ولاشك في أن التطور الرسمي لأرقام الموازنات، لا يدل على تطور اقتصادي، لأنه لا يعود إلى زيادة حقيقية ناتجة عن توسع أو نمو في الاقتصاد السوري، وإنما إلى تضخم قيمة النفقات الناجمة عن الارتفاع الكبير في الأسعار، وبسبب سوء السياسات الاقتصادية، مصحوباً بالفساد والإهمال والمحسوبية، في ظل تدويل قضية سوريا واشتداد الحرب بالوكالة على أرضها، واقتسام النفوذ الجيوسياسي والعسكري بين تركيا وإيران وروسيا وأميركا، واستثمار المصالح.
وفي مؤشر واضح على انهيار الاقتصاد السوري وفشل السياسات الاقتصادية، خلافاً للتوقعات السابقة حول حدوث انتعاش بعد انتصارات عسكرية للحكومة وبسط نفوذها على مزيد من الأراضي، فإن الأرقام تدل على تضاعف العجز المالي إلى مستويات خطيرة، مما أدى إلى تداعيات قاسية ومدمرة للمجتمع السوري، حتى وصلت نسبة الفقر فيه إلى 86%. وإذا كانت الحرب قد ضاعفت عدد الفقراء، فهي في الوقت نفسه زادت غنى بعض الأغنياء، وضاعفت ثرواتهم التي تراكمت من الفساد في مختلف الاتجاهات، باستعمال السلطة أحياناً، والقوة والعنف أحياناً أخرى، نتيجة السيطرة على بعض المناطق والأسواق والبيع والتجارة، مستغلين فقدان المواد الغذائية والاستهلاكية وارتفاع أسعارها.
وفي الوقت الذي يستمر فيه دمار مزيد من الأراضي السورية نتيجة المعارك المستمرة، تقدر كلفة إعادة الإعمار بنحو 530 مليار دولار، وهنا يلاحظ «هشاشة» اعتماد مبلغ 50 مليار ليرة في الموازنة لإعادة الإعمار، أي أقل من 30 مليون دولار، أي 5.6% من الكلفة الإجمالية، الأمر الذي يشكل تحدياً كبيراً أمام سوريا في سعيها لإيجاد مصادر للتمويل، خصوصاً في ضوء الوضع الداخلي والأزمات الاقتصادية في العالم بعد وباء كورونا الحالي.
وإضافة إلى تداعيات الحرب المدمرة، هناك أسباب مستجدة لانهيار سعر صرف الليرة، لعل أهمها: استمرار الصراع الداخلي والإقليمي والدولي، وتأثير العقوبات على إيران التي ساهمت في تجميد مساعداتها لدمشق، والمقدرة بنحو 25 مليار دولار، بل مطالبتها الحكومة السورية بدفع الديون، مما إضطرها مؤخراً إلى منحها عقداً للتنقيب عن النفط في منطقة البوكمال، وصفه وزير النفط السوري علي غانم باعتباره «عقداً نفطياً لصالح سد الدين الائتماني طويل الأجل». وكذلك يلاحظ أن «قانون قيصر» الأميركي ساهم بدوره في انهيار سعر صرف الليرة السورية، بتشديد الخناق على البنك المركزي ومحاصرة النظام وداعميه، حتى أن لبنان تأثر أيضاً باعتباره «بوابة» سوريا في تجارتها الخارجية.

*كاتب لبناني