يواظب أستاذنا الكاتب المبدع سمير عطا الله على رثاء بيروت ولبنان بأسلوب حار وبيان متدفق يستثير المشاعر والدموع. وهذا حقه بالنظر إلى أمرين: أنه عاش التجربة في أزهى أزمنتها اللبنانية والعربية والعالمية، وأنه يعتقد بأنّ أصحاب المشروع اللبناني (وهم الموارنة وهو من أعلامهم) هم الذين تخلَّوا عنه!
يشكو لبنان اليوم، في أخص أو من أخص خصائصه التاريخية: القطاع المصرفي، والمدرسة، والجامعة، والمستشفى، والمنتجع السياحي، وشركة الطيران المتفوقة. فالقطاع المصرفي الذي قام في بيروت قبل قرن ورُبع، يكاد يفلس ويقفل، وتضيع مع ضياعه أموال ملايين المودعين! وقد نافست المدارس الخاصة الراقية والجامعات الخاصة، مدارس الدولة اللبنانية وجامعتها، وتفوقت عليها على الأقل في الحظوة لدى لبنانيي الطبقة الوسطى، بحيث صار عدد التلاميذ في المدارس الخاصة الأجنبية واللبنانية ثلثي أعداد طلاب لبنان! وكذا الأمر بالنسبة للجامعات؛ ففي الجامعة اللبنانية سبعون ألف طالبة وطالب، أما في الجامعات الخاصة فيزيدون على المائتي ألف! رئيس الجامعة الأميركية قال قبل شهر إن الجامعة تعاني من خسائر لا تُحصى، ولابد من مراجعة كل شيء وعصر كل شيء لكي تستطيع الجامعة الاستمرار في الحد الأدنى! وهذا الأمر تشكو منه الجامعات الخاصة الأخرى، وقد انخفض مستوى التعليم في الخمس أو الست جامعات التي تقع في المقدمة. لقد انكسرت الطبقة الوسطى اللبنانية، وما عادت تستطيع دفع الأقساط المرتفعة في المدارس والجامعات الخاصة. أما المستشفيات المسيحية العريقة، فقد أقفل نصفها، والنصف الآخر مهدَّد.
إن الذي يشكو منه محبو لبنان القديم، ليس تلك الدعوات المتكاثرة للتنكر والإنكار فقط؛ بل وهذا التخلي المسيحي عن لبنان الوطن والدولة، والدولة أكثر من الوطن، ومن جانب المستفيدين الكبار منه على مدى مائة عام الأولى من تاريخه. هم أصحاب البنوك والمستشفيات والمدارس. والجامعات الخاصة الراقية، وقد صارت معظم فلوسهم أو بقيت بالخارج. قالت المدارس الكاثوليكية لرئيس الجمهورية إن ثمانين بالمائة منها مهدد بالإقفال في العام القادم (2021). فقد كانت تتلقى إعانات من وزارة التربية، وقد توقفت تلك الإعانات منذ خمس سنوات، كما أن التلامذة لا يستطيعون دفع الأقساط، فمن أين ستدفع المدارس للأساتذة وللإدارة ولترقية التعليم أو الاحتفاظ بمستواه؟!
نوستالجيا لبنان القديم، ولبنان الجديد بعد الطائف، حاضرة في أخلاد وتصرفات وأساليب عيش فئات لبنانية كبرى. لكن هذه النوستالجيا المتصاعدة تخنقها الراديكاليتان: الراديكالية الشيعية الاستيلائية التي تريد افتراس كل شيء تحت عناوين مختلفة، آخِرها كلام المفتي أحمد قبلان، وخطابات نصر الله بشأن الاقتصاد المشرقي والاتجاه لإيران وسوريا للإنقاذ! والراديكالية المسيحية العونية التي ما تزال تصر على تحصيل حقوق المسيحيين، التي أضاعها الطائف ودستوره. ثم يتبين أن الراديكالية الأولى أيديولوجية وخيالية، لا لأنها تبحث في إيران وسوريا عن الدعم المالي المفقود فقط، بل لأنها تجده في الحقيقة في المرفأ والمطار والمعابر مع سوريا وتبعية سائر المؤسسات. أما الراديكالية المسيحية، فيتبين أن المسيحيين الذين تريد تحصيل حقوقهم، ما هم إلا حزب الرئيس وأقاربه. وفي جلسة ماضية لمجلس الوزراء تقرر بالأكثرية السير في معملي الزهراني ودير عمار للكهرباء، وإهمال مشروع معمل سلعاتا لأنه يستهلك مئات ملايين الدولارات في الاستملاكات. لكن رئيس الجمهورية اعترض على القرار وردَّه، رغم معرفته بأن العمل المذكور مستحيل الإنشاء!
أهل النوستالجيا يقولون: هاتان الراديكاليتان موجودتان وأهلهما يتحكمون بالحكومة والمؤسسات؛ لكن مشروعيهما مستحيلان سواء بالانضمام للمحور الإيراني، أو بإقامة الوطن القومي المسيحي. ولذلك يظل الأمل بلبنان الكبير (!) المُنشأ عام 1920 قائماً وقوياً.
الدكتور فارس سعيد، أحد المؤمنين بالطائف وبلبنان القديم، يعتبر النوستالجيا قوةً حقيقية. لكن الزمان زمان أزمات. وما عاد للكوسموبوليتية البيروتية والسكندرية والإسطمبولية مكان أو زمان. وفي الأول والآخِر، فإن أولئك الذين أنشأوا لبنان وكسبوا له بقية اللبنانيين وكل العرب قد فنوا؛ في حين تنكر أولادهم وأحفادهم لكل هذا الإرث: فهل يمكن وسط الظروف المتغيرة والأزمات الطاحنة تحويل نوستالجيا سمير عطا الله وأمين معلوف وحتى جبران خليل جبران إلى قوة سياسية؟

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت