شكّلت جائحة كورونا صدمةً للوعي الإنساني في مختلف المجالات الفكرية والسياسية والأخلاقية، بل كانت صدمة للمسلمات المعرفية والكيان الحضاري الإنساني. ولا نبالغ إنْ قلنا إنها شكلت صدمة أيقظت الإنسان من وهم القوة وسيادة الكون، وجعلته يستحضر مصير مستقبله الذي أصبح غامضاً في مواجهة هذا الفيروس المراوغ، الذي لا يُرى بالعين المجردة، والذي لا يفرق بين الهويات أو الثقافات أو الأديان. وقد جاءت هذه الصدمة لتسقط الأطروحات الأسطورية لقوة البشر والإمساك بناصية الطبيعة.
قرأت لأحد الكُتاب وهو يشير إلى أن الإنسان في مواجهة الأزمة الحالية، وكأنها استدعاء لأسطورة (إرا) البابلية.. التي تقول: إن إله الطاعون (إرا) اقترح على كبير الآلهة (مردوخ) بالتنحي عن عرشه مدة من الزمن بسبب عجزه عن السيطرة على البشر لِما ناله من ضعف كي يحل محله ويؤدبهم ويعطيهم درساً لن ينسوه أبداً وقد حرّضه على ذلك الابن البكر للإله «إنليل» ووزيره (إيشوم). وما إن استجاب (مردوخ) حتى بدأ (إرا) بإهلاك معظم سكان بابل بذريعة ازدياد عددهم وكثرة ضوضائهم التي أزعجت الآلهة، فضلًا عن استخفافهم بها وازدرائهم بكلامها، وتصرفهم، وفقاً لما ترغب فيه قلوبهم، ولكن (إيشوم) يعدل عن موقفه بعد أن رأى هول الكارثة، ويأخذ بتوجيه النصح لسيده، ويوقف حملته ويفلح أخيراً في مسعاه.
وكأن كورونا ما هو إلا (إرا) جاء يصدم البشرية بالموت والخوف كي تكون وقفه مع الذات.. فرصة لندرك ذواتنا المفصولة عن أرواحنا في دولبة الحياة، لنعيد النظر في مساربنا اليقينية ونبحث عن النور المخبوء فينا، والذي توارى خلف صخب الصراع الذي تعيشه البشرية منذ زمن بعيد.. صراع يختنق بين كفيه السلام والمحبة والسكينة والتسامح بين البشر.
الجائحة علمتني استثمار اللحظة الآنية كما هي وعيشها وإعادة صياغة نظرتي للزمن والتآلف مع الذات، وأن أمنح نفسي الحق في إحياء الأحلام المؤجلة قبل أن تتكاثر طحالب النسيان وتخنقها ويصعب إزالتها.. كما أنها علمتني أن الإنسان قادر على التكيف مع متغيرات الحياة، وأن الرتابة الحياتية حين تتغير تبدو لنا حلماً نتمنى أن نعود إليه، ويظل الإنسان قادراً على الإمساك بمصيره، ولا يحتاج إلى قسوة (إرا) كي يفيق من وهم القوة.. وحين ندرك أننا نعيش في نظام كوني نظل جزءاً منه لا ملوكاً عليه، نتواءم معه ونتناغم. دعونا نسمع ذلك الأنين الذي تئن به الطبيعة لنكون أطباء للكون قبل أن نكون أطباء للبشر، ستعود حياتنا بعيداً عن الجائحة والغضب، لنستمع من جديد لصوت الكون.
لنجعل من جائحة كورونا قوه لتحقيق ما كان غائباً في ظلمة النسيان التي صنعناها بأنفسنا في زمن الحرية المطلقة. التاريخ البشري يعيش لحظة مفصلية تتجلى فيها الروح لتهدئ من تسارع الحياة وتَصارُعِ البشر. إنها دعوة للتجديد لتكون عزلة للتغير وليست عزلاً للهروب.
لك قارئ حرية الاختيار، إما العزل أو العزلة حتى لا تكثر الطحالب ويصعب زوالها أو اقتلاعها.
* أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة في الأمن الاجتماعي والسياسي