لم يعد اللجوء إلى الحكي في سبيل الإفهام مقصوراً على الدراسات التاريخية، التي لا يمكنها أن تتجنب سرد الوقائع والأحداث في صيغة حكايات غير فنية، إنما أصبح وسيلة تشق طريقها بثقة وتتعزز في مختلف الحقول المعرفية، منتقلة من الإنسانيات إلى الطبيعيات، بكل يسر وسلاسة واتساق.
فالعلماء والباحثون وجدوا أنفسهم في حاجة ماسة إلى هذه الوسيلة لتوسيع دوائر الانشغال بما يقدمونه، شفاهة أو كتابياً، بعد أن أدركوا وتيقنوا من أن الحكي أكثر قدرة على الجذب والإقناع، لاسيما إن كان ما يقدمونه ذاهباً إلى الجمهور، غير المتخصص، الذي يراد له ألا يشعر باغتراب وهو يطالع مسائل العلم الدقيقة في العلوم الطبيعية، أو الأفكار العميقة في العلوم الاجتماعية.
وقد يعتقد كثيرون أن هذه الوسيلة يتم اتباعها فقط في تبسيط العلوم، أو لدى علماء يبحثون عن شهرة خارج جدران المعامل والمراكز البحثية، لكنها في الحقيقة تعدت هذا بكثير. فحتى أولئك الذين يعرضون افتراضاتهم وتساؤلاتهم، ثم استنتاجاتهم ونظرياتهم العلمية في صيغة معادلات صماء، إن طُلب منهم أن يبينوا كيفية التوصل إلى هذه المعادلات أو الخلاصات، فإنهم ينخرطون في الحكي، ويستمتعون بهذا، وهم يضفون مسحة من جمال على ما انتهوا إليه من أشياء مجردة أو جافة.
كما أن حقل «علم اجتماع المعرفة»، الذي ينظر في الجوانب الاجتماعية التي تقع وراء النظريات والقوانين العلمية ومن توصلوا إليها أو أنتجوها، لا يمكنه أن يطرح مقولاته وتصوراته إلا عبر مسارات سردية. فكل معادلة أو نظرية أو فكرة وراءها حكاية يجب أن تُروى، سواء كان من قام بهذا واعياً لدور الحكي في توصيل العلم إلى الأذهان والنفوس، أو غير مهتم بهذا من الأساس.
وإذا كان العلماء يلتزمون كثيراً بطرق تعبيراتهم المنضطبة حال جلوسهم لكتابتها، فإنهم لا يتقيدون غالباً بهذا إن تحدثوا شفاهة عنها، حتى مع أقرانهم أو زملائهم، إنما يتخففون من الضبط والربط، أو الصرامة العلمية، ويطلقون ألسنتهم لتمضي ساردة الكثير من جوانب ما يريدون قوله أو إبلاغ معناه. ولا يعني هذا بالطبع أنهم ينتقلون من طريقة إلى أخرى مغايرة تماماً، إنما سيمضي السرد متخللاً حديث العلم، ويزيد وينقص حسب الحال.
وتطور الأمر إلى شكل أكثر قرباً من الحكاية، بل هو عينها، دون أن يفارق الوقوع في قلب المعرفة العلمية. والحكي هنا لا يعني الإيغال في مشروطية الأدب أو مقتضياته الفنية، باللجوء إلى التخييل أو الإفراط في البلاغة، أو التشكيل الجمالي للغة، إنما نتخذ من الأشياء، كالنباتات والحيوانات، أبطالاً أو شخصيات مركزية نسرد كل ما يتعلق بها، أي نقدم ما يخصها، أو أغلبه، في قالب قصصي، ويمتد هذا أيضاً إلى مختلف الظواهر الطبيعية. وهناك من يعطي هذا مسحة أدبية، فيسرد عن الأشياء والظواهر، وكأنه لا يتحدث في العلم، إنما يبدع في الأدب، وكأن العلم مجرد موضوع لقصة، حتى لو راعى الكاتب الدقة في تناوله، فالتزامه بالموضوعية هنا لا ينزع عنه الذاتية التي يتسم بها الأدب، وهي من خصائصه الرئيسية.
ويحضر السرد عفياً في مجال الطب والوقاية، حيث الحديث عن الأمراض وأعراضها، والعلاج وطرقه، حتى أنه يتحول على ألسنة بعض الأطباء إلى حكايات، يكون أبطالها في أغلب الوقت، هي أعضاء جسم الإنسان، ويكون مقصدهم من سردهم هذا، هو أن تصل المعلومة إلى القاعدة العريضة، فتعم الفائدة، إذ إن أغلب الناس ستنفر من الشرح والتوضيح، إن جرى أمامهم بالطريقة نفسها التي تجري في قاعات الدراسة بكلية الطب ومعاملها.
*روائي ومفكر مصري