لا يخلو تشريع في العالم من مبدأ عدم اعتبار الجهل بأحكام القانون عذراً، فمتى ما نصّ القانون على أن فعلا ما يُعدّ جريمة، فلا يُقبل ممّن اقترف الفعل الاعتذار بأنه لم يكن يعلم بأن ما اقترفه جريمة، ولا يُقبل منه الاعتذار باقترافه الفعل بناءً على تفسير خاطئ منه للقانون، فالعلم بالقانون مفترض في كافة الناس، سواءٌ في ذلك مَن كان يعلم فعلاً أو مَن لم يكن يعلم في الحقيقة. وهذا العلم المفترض بالقانون أملته اعتبارات العدالة، لئلا يُتخذ عدم العلم حجةً لاقتراف الجريمة والتحلّل من العقاب عليها، وضرورات المساواة بين الأفراد أمام القانون، فالجميع سواسية أمام هذا المبدأ، المشتغل بالقانون وغير المشتغل به، المتعلم وغير المتعلم، المواطن وغير المواطن.. فما دام القانون صدر وفقاً للأوضاع الرسمية فهو ملزمٌ لكافة المخاطبين به، بل هو نافذٌ حتى بحق الصغير والمعتوه وقليل الإدراك، كل ما هنالك أن لهذه الفئات أحكاماً خاصة في الجزاء.
ويبدو هذا المبدأ شيئاً بديهياً، فكلنا نعرف أن القتل جريمة، والسرقة جريمة، ولا يُقبل من القاتل أو السارق الادعاء بأنه لم يكن يعلم أن ما أقدم عليه جريمة، فهكذا أفعال اتفقت الأديان كافة على تجريمها، وهي مرفوضة أخلاقياً، ويعرف كل إنسان أنها أفعال إجرامية ولو لم يطّلع على أي قانون.
لكن قائمة الأفعال التي تعتبر جرائم طويلة وغير محصورة في نطاق تلك البديهيات، فثمة أفعال كثيرة تعد جرائم لا تتعلق بموضوعات مثل حياة الإنسان وعرضه وماله، وإنما بمصالح أخرى يسعى المشرع إلى حمايتها بتجريم من يمسّ بها، كالمصالح الاقتصادية والثقافية والبيئية وغيرها، وهي جرائم غير مقررة في قانون العقوبات، وهو القانون الأم في المجال الجنائي، ولا في القوانين العقابية المكملة له، بل منثورة في قوانين شتى مدنية وتجارية وإدارية وصحية وغيرها.
فمثلاً في قانون مكافحة التبغ لدينا جريمة استيراد ألعاب تشبه منتجات التبغ، وفي قانون حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة ثمة جريمة استخدام بطاقة معاق دون موجب قانوني، وفي قانون تنظيم صيد الطيور والحيوانات هناك جريمة صيد حيوان الضب، فكل هذه الأفعال لا تُعدّ مجرد مخالفات وإنما جرائم من نوع الجنح.
وثمة أفعال تجرّمها القوانين لأنها تمسّ بالأسس الدينية أو القيم الاجتماعية، ومع اختلاف الثقافات نجد أفعالاً مجرمة في دول وغير مجرمة في دول أخرى، كألعاب القمار، وتعاطي المخدرات، والعلاقات الجنسية بين غير المتزوجين. وثمة أفعال تعد جرائم في كثير من الدول لكن بشروط مختلفة، فمثلاً الإقراض بالربا من قِبل شخص طبيعي جريمة في القانون الإماراتي، أياً كانت نسبة الفائدة المتفق عليها، بينما لا يُعدّ هذا النوع من الإقراض جريمة في كثير من القوانين العربية طالما لم تتجاوز الفائدة الحدّ المسموح به قانوناً.
ومع الضرورات التي تملي الأخذ بمبدأ عدم اعتبار الجهل بالقانون عذراً، ومع حقيقة أن الجهل بالقانون أمر لا يمكن إنكاره، فلا بد إذن من العمل على إيصال المعلومة القانونية لكافة أفراد المجتمع بمختلف جنسياتهم وثقافاتهم ولغاتهم، إذ الأولوية هي في الوقاية من الجريمة ومنع وقوعها، وليس العقاب عليها بعد ارتكابها. ‏‭