لماذا لم يضع خطر انتشار فيروس كورونا حداً لنزاعات مسلحة في منطقتنا، وإن أدى إلى تراجع حدة المعارك في بعضها؟ يتطلب الجواب بحثاً يبدأ بمحاولة النفاذ إلى أعماق التفاعلات المنتجة لصراعات عنيفة تخلق نزاعات مسلحة في بعض البلدان العربية منذ عام 2011، والسعي إلى تحليل جوانبها الثقافية لمعرفة كيف تراكمت العوامل المؤدية إليها في قلب مجتمعات عربية اشتعلت فيها الصراعات الدينية والمذهبية والعرقية. وهذا بعض ما يُعلَّمنا التاريخ إياه منذ نهاية العصور الوسطى. كانت المسألة الثقافية حاضرة في قلب الصراعات الأكثر حدة في العالم منذ أكثر من خمسة قرون. وربما يجوز القول إن هذه المسألة ملازمة للصراعات الأشد عنفاً، والأكثر استعصاءً على الحل. وتقع قضية الآخر المختلف، والموقف تجاهه قبولاً أو رفضاً، في القلب من هذه المسألة، وتُمثل محور البُعد الثقافي للأزمات الأشد عنفاً.
وقد انتبه غير قليل من المثقفين الأوروبيين إلى أهمية هذا البُعد عندما انفجر الصراع الدموي الطويل في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومن أهم ما انتبهوا إليه عدم إمكانية أن تشرق شمس التقدم في مجتمعات يُمزقها التعصب والتطرف، وغيرهما من أشكال رفض الآخر. ومن هنا كانت الأهمية الكبرى للتحول الذي حدث في أوروبا باتجاه قبول الآخر، ولم يصل مثله إلى كثير من مجتمعات الشرق الأوسط الواقعة في أسر جمود يُعطّل العقل، ويحول دون إدراك أخطار التطرف والعنف.
وكان تأصيل مبدأ التسامح تجاه الآخر المختلف ثمرة هذا التحول الذي أدى أيضاً إلى إدراك مدى أهمية البُعد الثقافي للصراعات، وأثره في إشعالها، كما في إخماد نيرانها وتغيير البيئة التي تنتجها. فرغم تعدد عناصر البُعد الثقافي للأزمات الأكثر حدة، يظل التعصب المؤدي إلى رفض الآخر هو المرض الذي ما إن ينتشر في مجتمع حتى يجعله قابلاً للانقسام، ومن ثم الصراع، وصولاً إلى الحرب بين فئاته ومكوناته المختلفة.
ولذلك أصبح ضرورياً إعطاء البُعد الثقافي لهذه الأزمات اهتماماً أكبر، عبر خطط وبرامج لتطوير ثقافة المجتمع، لإحلال ثقافة التسامح مع الآخر محل ثقافة رفضه والتعصب تجاهه، بدءاً من مدارسنا الأوّلية، وصولاً إلى مؤسساتنا المجتمعية. ومن هنا أهمية المبادرات التي تقوم بها بعض الدول العربية، وفي مقدمتها دولة الإمارات التي أعلنت 2019 عاماً للتسامح وُضعت خلاله الأسس الفكرية والمؤسسية اللازمة لعمل مستمر يهدف إلى زرع مبدأ التسامح في الأرض العربية.
والحال أنه ليس سهلاً التوصل إلى تسويات للنزاعات العربية المستمرة لنحو عقد من دون الشروع في معالجة عواملها الثقافية، مهما كانت الجهود المبذولة لتحقيق حل سياسي أو آخر، وحتى إذا ارتبطت هذه الجهود بعمليات إعادة إعمار. ستكون أية تسوية سطحية مرتبطة بإنهاك طرفيها أو أطرافها، أو بضغوط دولية، ومفتقرة إلى العمق المجتمعي، ما لم نعط أولوية لعمل جاد من أجل ترسيخ ثقافة تخلق مناعة ضد إعادة إنتاج الأزمات، أي ثقافة التسامح وقبول الآخر.
وهذه مهمة صعبة، ولكنها لا بديل عنها. ويتطلب إنجازها رؤية سياسية واعية تنتج مبادرات من نوع مبادرة دولة الإمارات التي أسفرت عن وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك. ولا يعني الاهتمام بالسلام العالمي إغفال أهمية السلام الاجتماعي الداخلي لأنه يمثل الأساس الذي ينهض عليه أي تقدم نحو السلام في العالم.
لكن، هذا النوع من المبادرات الكبرى يتطلب وقتاً طويلاً لتحقيق تحولات في ثقافة المجتمعات، ويحتاج صبراً ودأباً، لأنه يحقق أثره تدريجياً عبر التراكم الكمي الذي يؤدي إلى تحول يساعد في فتح الطريق أمام تسويات تظل هشة أو قلقة إلى أن يبدأ هذا الأثر في الظهور. ولذا لم يكن إعلان قيادة دولة الإمارات 2019 عاماً للتسامح إلا خطوة أولى في عمل كبير يستحق التفاف كل العرب الراغبين في مستقبل أفضل حوله.
ويمكن الاستفادة في هذا المجال بتجارب شهدتها أوروبا بين القرنين الثامن عشر والعشرين، لمعرفة كيف أدى التطور باتجاه التسامح في ثقافة المجتمعات الأوروبية إلى صمودها أمام موجة التعصب القومي التي تتجدد الآن مستغلة جموداً سياسياً هنا، وأزمات اقتصادية هناك.
وفي تاريخ أوروبا، خلال الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، دروس حول دور ثقافة المجتمع في مقاومة التعصب والتطرف. ويجدر بنا تأمل هذه الدروس لنعرف مدى أهمية معالجة البُعد الثقافي في أزماتنا، ولندرك قيمة دور دولة الإمارات في بناء أسس التسامح.