في جلسة عائلية، وبحضور الوالد والوالدة، اقتعدت الفتاة الصغيرة كرسياً خشبياً بجوار والدها، وفتحت حقيبتها المدرسية، وأخرجت كتاب اللغة العربية، لتري والدها العلامة الكاملة التي حازتها، من المعلمة، لإجادتها القراءة.
دهش الوالد، ورفع حاجبيه مذهولاً، ولكن ليس لسبب الدرجة العالية التي حازتها ابنته، وإنما للمرحلة الصفية التي وصلت إليها، ما جعله يفكر في سنوات العمر التي مرّت كما هي جداول الماء التي تذهب إلى البحر دون أن تلمس جذور الشجر.
فكّر الرجل ملياً، وتفحّص وجه ابنته، وقد تغيّرت أشياء كثيرة في شخصيتها، وأصبحت ثيابها تفوح برائحة الأنثى، وكل ما بدا فيها، دلّ على أن ابنته الحبيبة قد كبرت، وأنها وصلت إلى مرحلة دراسية، دون أن يعلم، وكأنه كان في حالة سفر، أو أنه كان نائماً في غرفة مجاورة، ولم يصحُ إلا بعد رنين جرس الجائحة، فانتفض، يرتب مشاعره تجاه الأسرة.
وبينما كان الرجل يغوص في محنة تأنيب الضمير، كانت الفتاة تستغرق في البحث عن دفتر الرياضيات، والتي حصلت فيه على درجة عالية، قبل يومين، ولما رفعت رأسها، انتبهت إلى دمعة غزيرة تنضح من عينيْ والدها، فاستغربت الفتاة، وتساءلت دهشة ما بك يا أبي؟ فنظر الرجل إلى وجه ابنته الطفولي، وتفرّس في ملامحها ثم أغمض عينيه، وكأنه لا يريد الاستمرار في مواجهة ما يحدث، وحاول أن يفلت من بين يديها، بالتحول إلى مواضيع أخرى تخص وضعها الدراسي، إلا أن الفتاة لم تسمح له بذلك، بل وجدتها فرصة ذهبية أن يمكث أبوها كل هذا الوقت بين الأسرة، ومن دون أن يحمل عقاله ومعصمه بين يديه، وفي تململ ولهوجة يقول لزوجته أنا ذاهب إلى الأصدقاء، لذلك شعرت بتملك العالم وهي تستحضر اللحظة الراهنة، وتجلس مع والدها وجهاً لوجه، فقالت الفتاة في لهجة ملهوجة: ما بك يا أبي، هل أنت تبكي؟ وبيد مرتبكة، مسح الدمع من عينيه، ثم شيّع الفتاة بابتسامة مقتضبة ماداً يده إلى رأسها، قائلاً: لا.. لا.. يا حبيبتي، هذه دموع الفرح، أليس هذا من حقي أن أشعر بالسعادة عندما أجد ابنتي، حبيبتي تقدم لي أجمل هدية، وهي درجات تفوقها؟ تخلّصت الفتاة من بعض قلقها، على الرغم من عدم قناعتها، بما ساقه والدها من عذر ضعيف لا يشفي الغليل.
وسادت لحظة صمت، والرجل لم يزل تحت تأثير صعقة المشهد والسؤال الذي تحكم في رأسه: أيعقل أن أكون بعيداً عن أجمل فتاة منحني إياها الله ولم أكتشف الأمر إلا بعد أن ضربت الآلة البيولوجية أعناق حقيقتنا؟ يا إلهي، من قلب المأساة، تخرج بذرة وعينا، ونكتشف وجوه أبنائنا.