لا تضاهي روعة الخروج من السجن، أو الخروج من المستشفى بعد عملية خطرة ناجحة، سوى الخروج من العزل (الضروري) لمواجهة وباء كورونا. وقد عبّرنا عنها في بيروت عندما فُتحت الطرقات وبعض المقاهي، واتخذ كل مدمن مقاهٍ مكانه المعتاد، وعندما شاهدنا جمهرات الناس، في عدد من البلدان المنكوبة، كإسبانيا وإيطاليا وفرنسا.. وهي تحتفل بمغادرتها جحورها وغرفها وجدرانها وتهافتها على المطاعم والساحات والحدائق، ترقص هنا، تتناول الطعام هناك، وتتريض هنالك.
هذه الفرحة مزدوجة، بالنسبة لهؤلاء في كل أنحاء العالم؛ فرحة العودة إلى الحياة الطبيعية، وفرحة النجاة من الموت.
إنها لحظات، مجرد لحظات، ما إن تنصرف، كما كل سعادة، حتى تتلبد الرؤوس وتنكمش المشاعر ويدب الخوف عندما يكتشف هؤلاء «العائدون» هول الخراب الذي أحدثه الوباء في عالمهم، ومحيطهم، ومدنهم، واقتصادهم.. إنها إطلالة ما بعد العزل على الواقع، فما بعد الحجر لن يكون كما قبله، إنه الشق الآخر من صورة النجاة: الحياة نفسها وظروفها وأحوالها التي يختزلها الاقتصاد والعمل.
ونظن أن هؤلاء عندما عانقوا الهواء الذي تنفسوه بعد مغادرتهم العزل لم يُنسهم الحقيقة! إن هذه الحالة لم تنتهِ إلا جزئياً. وإن كورونا ما زال، رغم تراجعاته النسبية، موجوداً بكل تحولاته، أمامهم ووراءهم وإن الحالة الأخرى (العيش وسبله والاقتصاد ومشتقاته) تمثل المعضلة الكبرى، وهما متصلتان، متداخلتان ولا يمكن الاكتفاء بواحدة دون الثانية.
إنها لعبة الزمن المقبل، وقسماته ظاهرة، والمعالجات والمقاربات، وسبل تجاوز هذه الظروف مختلفة من بلد إلى آخر، كل دولة عالجت الأمور على طريقتها، بحسب ظروفها وإمكاناتها، وهنا بالذات تطلّ رؤى وخلائط من الأسباب والأفكار والأيديولوجيات من كل حدب وصوب: الليبراليون والنيوليبراليون واليساريون والراديكاليون والمؤمنون والمتدينون والمتعصبون والجهاديون وكذلك الأطباء والسياسيون وطبعاً الاقتصاديون.. من دون أن ننسى العرافين والمتنبئين والمنجمين وأصحاب الأفكار المجمدة في برادات الذاكرات المعطوبة.
ينتظر العالم ما بعد العزل وما بعد انقضاء كورونا، مختبرات جديدة، ومنصات مسرح جديد، وأدوار بطولة جديدة، وأقوالاً كثيرة، قد لا يكون لها مثيل في التاريخ والجغرافيا، والحسابات والعدادات والحواسيب.. يعني التبشير بالفوضى كالنذير بالانقسام. وبالنسبة لبعض هؤلاء، فإن الموت بالعدوى هو أسوأ مستقبل يرسم. وحتى العزل الذي قد يؤدي إلى الجوع يترك على الأقل ضوءاً من أملٍ يتجاوز المحنة، وإعادة بناء عالم ما قبل وما بعد. وهناك المتدينون الذين وجدوا أصلاً الجواب النهائي: الحياة نفسها فيروس والسبيل الوحيد للشفاء منها هو الموت، والصعود إلى رحاب الجنة في جوار ملكوت الله: فالخطر يعالج بالشهادة، فالله أطلق الفيروس ونحن إليه نعود، والصلاة هي الدواء لأن النفس «لا يمكن أن تصاب بالعدوى»!
لكن، ماذا يقول الآخرون من جماعات وسائل الاتصال والعولمة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجي والعلمي؟ الواضح أن السؤال هو إعادة تجديد الديكتاتورية فقدان الحقوق، طباع الاستراتيجيات. هؤلاء يؤمنون بأن القوانين تنقذ الأرواح (وقد أنقذتها تدابير العزل والكمامات)، لكن الجمود الناتج عن ذلك يقتل الرغيف.
إذن ما العمل؟ أترى البحث عن عالم يحدث وآخر يولد، وبين الاثنين كائنات مكممة، مقهورة، منبوذة، عزلاء؟.. إنه الشعب الذي تعرى حتى من مكوناته..
سيكتظ الآتي بكل هذه المعطيات.. لكنها لن تكون في نظرنا سوى أفكار مكررة، مجلدة، محنطة إن لم يتجاوز العالم مجتمِعاً كل انقساماته.. ويطمح إلى الحلول المنشودة.

*كاتب لبناني