ونحن في أيام العيد؛ نُوقن أن الله تعالى قد جعل أعيادنا مواسم للفرح والسرور، والسعادة والحبور، وهي مناسبات متجددة، وجِسْر نَعبُر به من حالة إلى حالة أفضل، لنتمرن على قيم المحبة والمودة والتواصل، ونُمارس السعادة في مجتمعاتنا. بَيْدَ أن سائلاً قد يقول: العالم اليوم مُثْقَلٌ بهموم الوباء، وكله على أهبة الاستعداد لمحاربة عدو فتاك، فكيف نفرح بالعيد؟
«إن العيد عيد فلا يُسقط عنه بهجتَه أيُّ شيء». هذا الكلام الذي قد يُعبر عنه الكثيرون، ويَشعُر به الآخرون، يَدْفعنا للحديث عن موضوع مهم أحوج ما نكون إليه في هذه الظروف، إنه «الصحة النفسية» أول العلاج، وأكثر ما يُساعَد عليه، والمنظمات العالمية تؤكد أن هناك تأثيراً لهذه الجائحة على الصحة النفسية والعقلية، فالعامل النفسي لا يقل عن واقع مرض كورونا نفسه، وخاصة عندما نتأمل في الصورة التي شَكَّلها هذا المرضُ نجد مشاكل متراكمة، من خوف الإصابة بالمرض وتَوَهُّمِه، إلى من يباشرون المرضى من الأهل ومن هم في الصفوف الأمامية، إلى الآثار المعيشية والاقتصادية الناشئة عن هذا المرض، وهناك من يتحمل كل ذلك، لكنه قد لا يقدر على تَحَمُّل البقاء بين جدران أربعة لمدة غير محددة، وانسداد الأفق، والتفكير في المستقبل القاتم.
ولهذه الأسباب كلها، كان الأمان النفسي ضرورة في هذه الظروف التي تُجْهدُ النفوسَ والعقول، وتجعل الإنسان الهشَّ؛ أسير الوساوس والهموم والأحزان، وقد يؤدي به ذلك إلى مرض الاكتئاب؛ لأن المرض إنما يبحث عن الخائفين منه، كما قرر ذلك ابن سينا الذي يُعد من أبرز العلماء الذين لهم نظريات في الصحة النفسية وعلاقتها بالمرض، وارتباطها بالأوبئة. وأصدق وصف لزمن الأوبئة وانتشار الخوف ما ذكره أبو العباس المبرد في كتابه «التعازي»، حيث قال: (الناس لا يجزعون فيه على موتاهم كجزعهم في غير الطاعون... لما يدخلهم من الخوف، فكل إنسان يخاف على نفسه فيسلو عن الولد والأهل والقرابة) وذلك أن الأوبئة تُنغص على الناس حياتهم ومعيشتهم.
ولأهمية الجانب النفسي في مثل هذه اللحظات التاريخية، نجد تعاليم ديننا الحنيف تُولي عناية فائقة لهذا الجانب، ففي سورتين عظيمتين في القرآن الكريم، وهما من سور التحصين النفسي، اللتين هما المعوذتان، عَلَّمَنَا الله تعالى أن نستعيذ من الوسوسة بصفات ثلاث (الرب والملك والإله) رغم اتحاد المطلوب، لأن آفة الوسوسة أعظم مضرة، أما في سورة الفلق فالاستعاذة من ثلاث بصفة واحدة وهي (الرب).
إن الدعم النفسي له أهميته وضرورته في هذه الفترة للتعافي وللوقاية، وقد كان من الآداب التي يُرشدون إليها في «أدب المرض» قولهم: (لا يُحدَّث المريض إلا بما يُعجبه) وفي الطاعون الجارف الشهير الذي وقع في الأندلس، تصدى له العلماء بالدعم النفسي، ومنهم الطبيب الفقيه الأندلسي «ابن خاتمة»، الذي ألف كتابه «تحصيل غرض القاصد» يؤسس فيه للدعم النفسي الضروري في مثل هذا الوباء، ويقدم نصائح راقية نقتبس جزءاً منها حين قال: «وأصلح الأعراض النفسية: التعرض للمسرات والأفراح، وبسط النفس وانشراح الصدر، وامتداد الآمال، فليستدع ذلك بما أمكن من الأمور المباحة، ومجالسة من تلهج النفس بحديثه، وينصرف الفكر إليه، ولا جليس آنس من كتاب الله عز وجل... ومن لم يوفق في ذلك فعليه بمطالعة كتب التاريخ، وخصوصاً أخبار الفكاهات ومناشدة الأشعار وما في معناها، وليحذر التعرّض لكل ما يحزن النفس ويجلب الغمّ، ويلهي عن ذلك بكل وجه يمكن، فإنه من الأسباب القوية لحلول هذا العارض». وقَدَّم في كتابه نصائح أخرى في اكتساب الأمان النفسي.
إن العافية النفسية في هذه الظروف الاستثنائية من التحديات الكبيرة، ومسؤولية فردية وجماعية، ولا بد من مراعاة هذا الجانب، وما يتعرض له الناس من تلك الضغوطات، ومضاعفة الجهود لوقاية المجتمع من الأمراض الفتاكة، والعادات السيئة التي يُسببها فقدان هذا الدعم، كاللجوء للمخدرات وغيرها، وأعظم ما يساعد على اكتساب هذه العافية هو أن نكون إيجابيين متفائلين، نَنْشر الأمل والسعادة، ونُحذر من اليأس والقنوط، ونَحتوي أنفسنا وأُسَرَنَا، والدولة وعلى رأسها القيادة الرشيدة تهتم بهذا الجانب، وفي كل إطلالة لسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد يُطمئن شعبه، ويدعوهم للأمان والسكينة وعدم اليأس، والله تعالى ينهانا عن اليأس حيث قال: (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه) وهذا عيدنا عيد فرح وبهجة، فلنكن فيه سعداء، ولنُسعد مَن حولنا، جعل الله كل أيامنا صحة وسعادة، بإذن الله تعالى.
*المدير التنفيذي للشؤون الإسلامية في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف.