منذ أن حلت بنا جائحة كوفيد 19، وعائلة كرة القدم منشغلة بآثار وتداعيات هذا الزلزال العنيف الذي ضربها، فمع شدة الألم بانقطاع تيار العشق، زادنا وجعاً ما روجت له الشركات العملاقة المستثمرة في كرة القدم، من أرقام منتفخة للخسائر المالية الناجمة عن الشلل الذي ضرب المنافسات، وفي ظل بحث الرعاة والمنتفعين المباشرين من خيرات كرة القدم، عن أنجع السبل للخروج من هذا الدمار الشامل بأسرع وقت، وبأي طريقة ممكنة لإنقاذ الإمبراطورية المالية من الانهيار، بدا وكأن هؤلاء يبيعون في المزاد، جوهر وقيم كرة القدم، التي لا تنازعها في الشعبية والجماهيرية رياضة أخرى.
إن تاريخ كرة القدم فوضوي أكثر مما نظن، فمع كل وصفات نجاح وشعبية كرة القدم وطابعها الديمقراطي، إلا أنها تكشف عن سر غامض، سر كيميائي خفي، يتغير أحياناً وفق المكونات السحرية لكل بلد، فكرة القدم باتت خاضعة لسلطان المال، عصب الحياة فيها اقتصادي، والدليل هو ما تشهده اليوم أوروبا من تجاذب قوي بين الديناصورات، بين من يرفض العودة المستعجلة للتباري، وبين من يحث عليها ولا يرى مفراً منها، وطبعاً من يصر على عودة الحياة لكرة القدم في ظل هذه الأوضاع المخيفة، يستعير تعبيرات غريبة، منها أن الناس سئموا من زنازينهم الصحية، ويرون في كرة القدم نسمة حرية وعبير سعادة.. والتعبير الحتمي عن هذا التغول الاقتصادي لكرة القدم، ولهذا الشره الكبير الذي يميز المشهد، ما شاهدناه يوم السبت الماضي، والدوري الألماني يعود بمباريات تجري خلف الأبواب الموصدة، وأمام مدرجات صماء لا يسمع لها صوت ولا هدير، حيث يكون لزاماً أن يسمع اللاعبون موسيقاهم الاعتيادية، وكأنها آتية من جزر بعيدة.
كل فلاسفة الجمال سيعتبرون عودة البوندسليجا وما سيأتي لاحقاً، تعبيراً إنسانياً عن رفض القهر والانصياع لجبروت فيروس لعين، وسيتغنون بهذا الولاء الرائع من كرة القدم للعاشقين والمعشوقين وهم حول العالم بالملايين، ولكن الحقيقة المتخفية وراء هذا اللحاف العاطفي والرومانسي، أن كرة القدم ما عادت، إلا لتنقذ الصرح المالي من التهاوي كاملاً، وما فكت الرباط وما كسرت قيود الحجر الصحي، إلا لتحول دون أن تتفاقم الأزمة المالية، فاللعب في ملاعب معقمة وعالية الخطورة ومن دون جمهور، ينقذ هذه البطولات من خسائر مالية مضاعفة، بسبب تراجع الإيرادات من النقل التلفزي.
كثيرة هي المؤشرات التي أنبأتنا منذ زمن غير قليل، أن منطق المال غطى تقريباً على كل القيم النبيلة التي قامت عليها كرة القدم، وكانت سبباً في شعبيتها الجارفة، وأن فيروس المال يمكن أن يتسبب فيما هو أفدح وأفظع مما تسبب فيه الفيروس التاجي، أن تفقد كرة القدم روحها.